لن يغيب عن ذاكرة الذين عبروه

لن يغيب عن ذاكرة الذين عبروه

الأزمنة

الأحد، ٢٦ أكتوبر ٢٠١٤

زهير جبور
تترك الأماكن في صفحة ذكرياتنا حنيناً. عاطفة وتعريفها هي صوت الطرب الداخلي من حزن أو فرح، شوق أو توقان نفس. يقال حن قلبي، حالة الألم والرجوع، واضطرابات الذكرى، وتشمل الماضي والحاضر. وكثيرة هي الآداب التي تحدثت عنها، وكذلك قصائد الشعر، وكل الأرض تهون إلا الموضعا. كما ورد في شعرنا العربي القديم.. هذا ما أجج الحنين وبلادنا تشهد أحداثاً مؤسفة حزينة بدلت صورة الفرح عن وجهها. لتدخلها في يم من الحزن والموت، وهي الدافع لجعلنا نستذكر كل مكان ومدينة وقرية وموضع كنا قد زرناه من أرض درعا وصولاً للمالكية. فأين كنا؟ وأين أصبحنا؟..
هو الحنين الذي جعلني أتخذ طريق اللاذقية إلى ريف طرطوس وحماة. لأعبر شرق بانياس إلى مصياف. مروراً بالقدموس ولابد أنّ أبناء الوطن ممن عبروه لن يغيب عن ذاكرتهم. فما يخلفه من انطباع لا يمكن أن يمحوه الزمن، وفي اجتيازه ثمة مناظر ساحرة وتضاريس متنوعة ممتدة عبر فضاء فسيح. ملون بنسيج قصيدة حيكت من جذوع الشجر، وعبق التاريخ، وماء الينابيع، ورائحة الصنوبر وسلاسل جبال منها المتقدم أو المتراجع. أو من هو بين جبلين، لوحات من فن قد تتمكن ريشة المبدع من التقاط المساحة الصغيرة لكنها لن تتمكن الدخول في تفاصيلها ومداها، ونحن في أماكن يعود عمرها لملايين السنين تشكلت فيها مياه متدفقة انسابت من شقوق صخرية لتصل عذبة، نقية والذين عبروه يذكرون أنهم توقفوا ليشربوا، ويغسلوا وجوههم وينتعشوا ويتزودون بما يحملونه من فوارغ يعبئونها وينقلونها معهم، مياه من (القدموس) مشهورة. وكانوا يجلسون في استراحات شعبية، تقدم ما ينتج محلياً. زبدة. لبنة. عسل. سوركي الأكلة الأكثر شهرة والتي تصنع يدوياً وعرفت في العالم، ويطلبها السوريون أينما كانوا في بلاد الاغتراب، واعتبرت الهدية المفضلة بينهم. وفي الماضي قبل الأزمة والأسف، والجفاف. وتبدل الوجه بسبب التآمر كانت نشرات الطقس تعلمنا أنّ الطريق مقطوعة بسبب تراكم الثلوج، ويا لجماله من انقطاع. وأبناء حمص وطرطوس وحماة ينطلقون إلى هناك في رحلات جماعية للاستمتاع في الثلج وقضاء وقت بين أحضان طبيعة لن تغادر الحنين. وسوف تنادي الشوق محفورة في خلايا الذاكرة. وكثيراً ما تساءلت كيف كان حال المنطقة قبل شق الطريق الرئيسية والفرعية. وكيف كانت حياة سكانها. وهاهم اليوم بين المدارس والطاقة والصحة. وكانت مفاصل تواصلهم مقطعة تغلق عليهم سبل العيش وتعلم الإنسان كيف يتعامل مع قسوتها, تلين له، ويلين لها. تعطف عليه ويقسو عليها.
•    ماهو حالها؟
وصلت إلى القدموس.. قلقة كغيرها من بلدات سورية، لم يكن موسمها السياحي مزدهراً، وقد تراجع متدرجاً منذ بداية الأحداث، وتوقفت إلى حد كبير طريق حمص مصياف، بانياس، القدموس، وقد حلت وحوش الموت فيها، ومارست القتل والدمار، وهو ما أدى إلى إغلاق كافة الاستراحات التي كانت مصدر رزق أبناء القرى وهم يعتمدون في عيشهم عليها وعلى تربية المواشي من أبقار وماعز، وينتجون من حليبها ما يباع وعبر سنوات طويلة جذب الزوار وشكل حركة تزداد صيفاً، ولا تتوقف شتاء، أم رشاد تحدثت عن عائلات ارتبطت بصداقة معها في دمشق ودرعا والسويداء يحضرون خصيصاً أكثر من مرة في السنة ليحصلوا على مؤونتهم من عندها، وحين ذهبت إلى درعا أقامت عدة أيام في بيت من تعرفت عليهم، واستقبلت بحرارة، وقدمت لها المساعدة المطلوبة في رؤية ولدها الذي التحق هناك بخدمة العلم، هكذا كنا نحن أبناء سورية، أسرة واحدة.. ماذا جرى؟ وهي تعبر بعفوية ومعاني الصدق تعلو ملامح وجهها وتضيف.. سنبقى ولن نتغير مهما حاولوا.
بعض الينابيع جفت، ومنها ما انخفض منسوبه، والأزمة اللعينة انعكست على حركة العمران في القدموس، والجمعيات السياحية التي توقف عملها، ومن قبل كانت متجهة للوصول إلى مرتبة متقدمة بين المصايف في سورية، وقد توفرت لها الخدمات المطلوبة وخاصة أن جميع العناصر المتواجدة ترشحها لهذا الدور، توقفت المشاريع، واستقبلت القدموس أعداداً لا بأس بها من الأخوة الوافدين الذين أقاموا فيها يمارسون بعض الأعمال لتأمين دخل العيش.. حدثونا هناك عن سورية وجرحها وهم يعيشون المأساة والحزن.. وودعوا الشهداء الكثر الذين ضحوا من أجلها.
•    مواسم حيالين
تابعنا إلى بلدة (حيالين) البعيدة عن مصياف 6 كم متموضعة على هضبة تحيط بها الجبال، مرتفعة عن سطح البحر 850 إلى1100 م وتعني حيالين الحصن الحصين، ويقال تاريخياً إنها كانت مركز تجمع الجيوش في زمن البيزنطة، وتعتبر مدخل محافظة حماة إلى طرطوس وتقع في الغرب من مدينة حماة على بعد 52 كم وأشجارها التفاح. الأجاص. الرمان. الزيتون. التين. العنب. تضررت مواسمها، وكان سكانها يعتمدون في إنفاق محصولهم على الزوار العابرين الذين يطيلون الوقوف عندها للحصول على الثمر الناضج والمقطوف من أمه كما هو التعبير الشائع، وكثيرون كانوا يفضلون القطاف بأنفسهم.. أبو وحيد يقول إنّهم حرموا منهم وكانوا ينتظرونهم ويرحبون بهم، يقول: لم نكن في الماضي بحاجة لسوق الهال لتصريف الإنتاج، كان الشبان الصغار يضعون البندورة الجبلية بمذاقها الطيب على جانب الطريق ويقومون ببيع إنتاج موسم بكامله، وهو عملهم الصيفي ومدارسهم متوقفة في العطلة السنوية، أسف أبو وحيد على تلك الأيام، وأسف على البلاد وأمنها وأمانها، وثمة شهرة حصلت عليها المنطقة من شلالات اللقبة والزاوي التي تستقبل الزوار والرحلات بمختلف أنواعها، اختفت بكاملها وكانت تجعل المنطقة نشطة وتؤمن لها دخلاً، هم يعتمدون اليوم على سوق مصياف والقدموس فقط، وخاصة أنّ أجور النقل مرتفعة جداً، وغياب التجار الذين كانوا يأتون لضمان الثمر قبل نضجه، ليرحلونه إلى المحافظات السورية الأخرى بعد نضجه.
 اختلفت الحياة كثيراً، وهو ما أدى إلى تراجع المستوى الذي كانوا يعيشونه سابقاً، ومظاهر الفقر الشديد هاجمتهم، لكنهم يأملون في القادم، ويحرصون على أن لا يتسرب اليأس إلى قلوبهم وهم بكل اعتزاز يودعون الشهداء، ويدركون أنّ دمهم يشق الطريق إلى الانتصار، والأمر يتطلب العزيمة والصبر، هو الكلام الذي يتردد على شفاه كامل أبناء المنطقة دون استثناء وهم يزدادون صلابة وإيماناً بسوريتهم وشعبها.
•    مصياف
وبعد غياب سنوات دخلت مصياف.. كل شيء على حاله في الأمكنة لكنه الزمن الذي يغير النفوس.. هي لحظة الرجوع والانتقال السريع بين الماضي والحاضر، قلعة مصياف كما كانت تتوسطها بضخامة حجارتها وتاريخها، المتحدي. الصامد. لم تزحزحها الحروب التي تعاقبت عليها، وهكذا سورية.. ومشيت في شوارع مصياف.. حركة عادية. وأسواق. وهي المركز الاقتصادي للمنطقة بكاملها، دخلت موقع الوراقة بأشجاره الكثيفة، وكان يستقبل زوارها، وراقة اليوم غير ما كانت عليه، والفرح غاب عنها، جولة الحنين قادتني إلى واقع ينبغي أن يتبدل وينتهي، لنعلن عودة للحياة والابتهاج، وهذا لن يكون إلا في رسوخ الأمل.. قلعة تبقى.. تطرد الأشرار والخونة والقتلة.. وبهذه الروح الوطنية التي يحملها الشعب السوري لابد أننا المنتصرون مهما تعددت أساليب الغدر وخططت وزجت من آلات الإرهاب وتحايلت.. والإرادة فوق كل قوة في حال متانتها وما تحمله من حق يهون الاستشهاد من أجله.