المتاجرة بالتربية مسمار في نعش القيم

المتاجرة بالتربية مسمار في نعش القيم

الأزمنة

الأحد، ١٩ أكتوبر ٢٠١٤

زهير جبور
كانت مناسبة تحمل معانيها حالة ابتهاج أسروي خاصة عند الذين سينعطف مجرى حياة أولادهم الذين وصلوا إلى السن القانونية التي تسمح في التحاقهم بالصف الأول الابتدائي..
حينذاك لم تكن ثمة رياض تجمع من هم دون ذلك العمر. ولم تكن معروفة أساليب المتاجرة, وهاهي اليوم منتشرة على نطاق واسع. ليتحول كل قبو غير صحي إلى روضة. ولها أسماء تطلق عليها وبكاملها ضمانة للمستقبل وتأسيساً لتربية سليمة معافاة (أجيالنا)(أطفال الغد)(المستقبل المشرق)(العباقرة الصغار) (طيور الجنة) وأسماء أخرى منتقاة غرضها الجذب والربح، وبالمقابل هناك أخرى بمواصفات رفيعة في البذخ وهي تعتذر عن قبول أطفال لا تنطبق شروطها عليهم، وهم يقدرونها حسب الحالة التي يقبل معها الطفل للتسجيل, والمظاهر المرافقة له. وفي هذه الرياض حاملة النجوم، تحدد عبقريته من خلال العربات القادمة معه، وعدد الأشخاص المرافقين في الخارج، ودخول الأم المتأففة إن حضرت مع المربية التي عليها البقاء معه في حالة ممانعته ذهابها. وستؤدي المعلمات دورهن في الترغيب والدلال. وقبولهن للاحتمالات المتوقعة كون الانتماء الطفولي يعود لأب يملك النفوذ, والجاه، والمال. وأمثال هؤلاء الأطفال لا ينحشرون في مقاعدهم. كما كانت الأجيال حيث المقعد الواحد في المدرسة الرسمية يتسع لخمسة وهو المصمم لثلاثة, وخرّجت تلك الحَشْرة متفوقين في الخيال, والتفكير والاستيعاب والمعرفة. دون حقيبة فاخرة ولا وجبة وفواكه، وتسليات أخرى. ولا قارورة ماء صنعت لغرض الشرب. وكان الفم يوضع على الصنبور ويتم غب الماء مباشرة. لا يعني ذلك أننا ندين التقدم لكننا نطالب أن يمارس طبيعياً دون تصنع ليدخله الطفل بسلوك سليم وروح جماعية كي لا تكبر في داخله حالة التفرد الكاذب, وتخرجه عن مساره وهي تجارة في التربية تأخذ الروضة فيها دور الزريبة أحياناً بعيداً عن التأسيس العلمي المطلوب والتحفز والاجتهاد المعرفي.
•    عن ألسنتهم
ماذا يمكننا أن نرد على أب يطرح مشكلته بواقعيتها المباشرة دون ألوان, ولا (مونتاج) بالأبيض والأسود. يقول: لا أتمكن من أن أدخل أولادي في المدرسة. حصل ذلك لكني لا أملك ما يجعلهم يتابعون، أخرجت الأول من الصف السابع، والثاني والثالث من الرابع والبنات تعلمن الكتابة وجدول الضرب، أدخلت الأولاد في المهنة وصنعة باليد تقي من شر الفقر. والشهادة المدرسية تجلب ويلات العوز. هو مواطن يعمل في حيه (الفاروس) بالسمانة. درس حتى السادس وعمل بعدها إلى جانب والده الذي ورث عنه المحل. وحين قلت إنّ الشهادة للأولاد والبنات ضرورية ضحك وكأني أسمعته طرفة وأجاب (هي ضرورية لناس وناس) وراح يتكلم أبناء الحي الذين تخرجوا من الجامعة هم بلا عمل منذ عدة سنوات. وعلى العكس منه وضحت أم خضر بائعة السلق والملفوف على رصيف سوق الخضر. أنّها تساعد أبناء أولادها بعملها هذا ولا تخجل منه وتكافح من أجلهم وتعليمهم وتتمنى أن تبقى على قيد الحياة لتعيش فرحة تخرجهم وأولادها حرمتهم الظروف من العلم. وهي لن تكف عن مساعدة أولادهم. وللسيدة أم مازن همها في أنّ ثمن الحذاء الذي سيرتديه ولدها وصل الآن إلى 7 آلاف ليرة سورية وكان 500 ليرة سورية هذا للحذاء فقط والإمكانية لا تؤهلها لشراء آخر للولد الثاني. وعليهم تدبر أمرهم أو تبادله فيما بينهم. وسمعنا ما يتعلق بثمن القرطاسية واللباس والمحافظ. والغلاء الجهنمي الذي لا يحتمل ومن عنده أولاد لن يجد حلاً إلا في حرمان أكثر من واحد وعدم دخوله إلى المدرسة. هو الواقع الذي سمعناه وبالطبع هذا لا ينطبق إلا على الفقراء أصحاب الدخل المحدود. ومن هم دون دخل..
وهذه الحالة:
تشكل أعلى نسبة من أبناء الشعب بعيداً عن أولاد الأثرياء والمستغلين, واللصوص والتجار الفاسدين. ومن ازدادوا ثراء في الأحداث الدامية واستغلوا قوت الشعب. وتاجروا بالقيم, وتجردوا من الإنسانية وليس من جهة رسمية أو مسؤولة تقدم العون للمحتاجين أو تراعي ظروفهم, أو جهة مدنية تدرس الواقع والإمكانيات وتتبناها الحكومة في وزارتها الاجتماعية. لفرز أبناء الفقر وتأمين بعض مصادر العيش لهم، مساعدات تقدم لبعض الأسر الوافدة تجعلهم يتخطون بعض الصعوبات، وفي اليوم المحدد للتوزيع نجد المئات يقفون أمام المركز في انتظار دورهم. ليعودوا في اليوم الثاني والثالث وبالمقابل نجد مواد المساعدة من زيت وفول وبرغل تباع في الأسواق, خاصة سوق الجمعة فهناك من يبيع. من يراقب ومن لا يراقب. من يرى مواد المساعدات على بسطات الشوارع. وهو الأمر الذي يسكت عنه والجواب لا يحتاج لكثير من التفكير.
•    ما يجري:
تحول العام الدراسي إلى عبء وفي الحقيقة إرباك نفسي واجتماعي بين الواجب في أن تتم متابعة التعليم. وما تتطلبه من أدنى إنفاق ممكن وأسعار أسواقنا لا انخفاض فيها بل على العكس هي ترتفع. والمرتبات الشهرية لدى أصحاب الدخل الوظيفي لم تعد تسد حاجة الطعام وحده. يقول أصحاب محلات بيع المواد المدرسية إنهم خفضوا هذا العام من ثمنها ما نسبته 20 إلى25% عما كانت عليه العام الماضي. والتخفيض المعني لم يشعر به أحد, وحدثني أحدهم وهو شبه غاضب: أي حسم هذا إذا كان الدفتر الذي يحتوي على 200 صفحة بيضاء مسطرة بمبلغ 275ل.س وطلب أن أفكر معه جيداً أربعة دفاتر من هذا النوع بمبلغ 525 ل.س، أي كل ورقة ثمنها ليرة وأقل من النصف. وإذا ما وضعنا ذلك بمقياس عدد الأولاد من نوع الدفاتر فقط فسوف نجدها كارثة مالية. وفي تجوالنا على أماكن البيع وجدناه السعر المعلن للمادة، وحجة التجار غلاء ثمن الورق وعدم توفره وحبر الطباعة, واليد العاملة. والنقل, وسلك الضم, وبأن هذا التخفيض جاء مدروساً بعناية, وهم لا يحققون إلا الربح العادل، لا ذنب لهم إن كان الدخل غير متوازن مع الأسعار. هم يقرون بذلك وينهون بأن الأزمة اللعينة وراء كل هذا. فما العمل؟ نماذج متعددة التقيناها وقد خصصنا للافتتاح الدراسي عدة أيام. وجمعنا الآراء. وجميعها صبت في الهم الواحد, الكابوس الواحد, المعاناة والألم, الحرمان, القلق على المستقبل والمصير.. وفي المقابل هناك من لم يشعر وكأنه يعيش خارج الوطن. ولا يعنيه ما يجري. رد أحدهم بكل وضوح دون خجل: (ليس من الضروري أن يحصل أبناء الفقراء على شهادات. وهناك مجالات أخرى للعمل) وهذا ما يترجم ببعده أن لا حياة للفقراء، وأن عليهم حمل الجهل وتشغيل أولادهم عند الأقزام الفاسدين.. وهي الظروف فعلاً التي زادت من الفقر فقراً ومن الثراء فحشاً.
•    مقترحات
ينبغي العمل على إنقاذ أطفالنا من الصدمة التي عاشوها, وتفعيل العمل النفسي والاجتماعي. وأن لا يقدم خاصة في المدارس بطريقة استعراضية لا جدوى منها كما يحدث، والسيد الدكتور هزوان الوز وزير التربية من الشخصيات الثقافية والأدبية المعروفة وهو يؤمن بالبناء النفسي والثقافي والاستكشافي. وأساليب العمل التربوي في هذا المجال, ولا بأس أن يتم تشجيع ورشات عمل اجتماعية في المدارس تأخذ دورها بالاهتمام بشؤون الطلاب داخل المدرسة وخارجها ومتابعتها أن يكون بينها وبين التربية تفاعلاً علمياً, وكذلك للحالة النفسية، ولا يجوز الاكتفاء بدور المرشد, وهناك هامشية في نوع التعامل معه.
عام دخلناه وما يحدد نوع المسؤولية هي الضمائر التي يتحلى بها الأساتذة والمشرفون وطاقم العمل, والنية الحسنة لا تعطي نتيجة إن لم تترافق بالإيمان, والجهد (والمعلم كاد أن يكون رسولا) وهذا من أدبيات شعرنا العربي, وغيابه عن الأفكار والسلوك يعني الخلل الكبير الذي ينبغي أن يتم تعاون الجميع من أجل الخلاص منه والعودة إلى الوفاء في المهنة..
ومن يتاجر في التربية يغرس مسماراً في نعش القيم وليس من المنطقي أبداً أن نرى الأستاذ (ينرجل) مع طلابه في المقهى أو هو بينهم في سهرات الصخب والمجون وغيرها.. هذا يحدث... وليس من يعاقب مسلكياً. وتربوياً. واجتماعياً..
وهي ممارسات لا تقل خطورتها... عما يحدث من دمار وقتل.