إنّه الجفاف والطبيعة أرحم من الإنسان

إنّه الجفاف والطبيعة أرحم من الإنسان

الأزمنة

الأحد، ٢٨ سبتمبر ٢٠١٤

زهير جبور
لم تشهد سورية جفافاً كما هو حاصل حالياً، بسبب عدم الهطلات في الشتاء الماضي، وقلة في البروق والرعود التي تساهم طبيعياً بتفجير الينابيع وزيادة المخزون الجوفي، وسريان الأنهار، وامتلاء السدود، من سوء الحظ لم يحصل ذلك، ما أدى إلى حالة ترقب وخوف بين المزارعين الذين يمثل لهم الزرع مصدر رزقهم الرئيسي، وفي الأسبوع الماضي حصلت بعض الهطلات الخفيفة في مناطق ريفية متعددة، وكذلك بمدينة اللاذقية، لتغسل الشجر، وتنظف الشوارع، وتخفف من روائح حاويات القمامة التي لم تغسل منذ مدة طويلة، وشعر الناس ببعض الانتعاش وهم يستنشقون رائحة العشب والتراب التي غابت عنهم طويلاً.
•    الخطر القائم
ثمة مثل شعبي يقول: (خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود) وربما من خلال هذا المفهوم سارعت الجهات المختصة وبتوجيه من القائد الخالد حافظ الأسد بإنشاء السدود، وهو الذي حرص على كل نقطة ماء من خلال تفكيره وعمق إستراتيجيته وحرصه، فكانت السدود التي خزنت المياه، وهي تؤدي دورها الكبير والهام في هذا الظرف الاستثنائي المناخي. المطري. المهدد. والذي أدى حالياً إلى غياب الثمر، وإن استمر فسوف يقضي على الشجر، وسندخل مراحل التصحر، لا سمح الله، فالطبيعة رحيمة على الإنسان وهو يقابل رحمتها بمزيد من الاعتداءات والقسوة، لأنّه بطبعه أناني، فكيف في زمن كهذا تنسف به القيم والأخلاقيات وسيطرة الأنا ولا أحد من بعدي طغت على كل شيء.
الشحّ المطري انعكس سلباً على مخزون السدود بشكل عام، وهذه بعض المقارنات.. يخزن سد (16) تشرين 210 ملايين متر مكعب في الأحوال المطرية الطبيعية، وصلت نسبة انخفاضه الآن إلى 70 مليون م3 مع حجم الماء الميت الذي لا يمكن ضخه إذا ما تم الانخفاض أكثر من ذلك، ومن خلال معلوماتي ومتابعاتي عبر سنوات طويلة منذ استثماره لم تصل النسبة إلى هذا المستوى، وهو المقرر له إرواء /20000/ هكتار وتأمين كمية 30 مليون م3 لمياه الشرب لقرى المحافظة، أما سد الثورة فهو يخزن 97.8 مليون م3 لإرواء مساحة 9600 هكتار من الأراضي ليصل حالياً إلى 27 مليون م3، وبقية السدود ذات الأحجام الصغيرة وصلت إلى نهايتها، ويمكن لأي زائر أن يلحظ ذلك، ورأيناه في سد بلوران حيث البحيرة التي تحولت إلى أرض يباب قاحلة متشققة، فقدت حيويتها التي كانت تتوسط تلك الدائرة من الخضرة وأشجار الصنوبر.
سارعت مديرية الموارد المائية في اللاذقية لتنفيذ الأعمال الإسعافية التي يمكنها أن تخفف من نوع الخطر المهدد، فعملت على فتح خطوط مقننة جداً وبشكل متوازن مع حاجة الأراضي الزراعية، وتحقق عدالة التوزيع التي لا يجوز التلاعب بها في هكذا ظروف، وعملت على الحد الأدنى مما يمكن أن تفعله، وهذا لا يلبي الحاجة والإمكانيات لا تسمح بغير ذلك، لكن القرش الأبيض أدى دوره، ومن لم يكن يعلم من قبل ما هي أهميته عند الحاجة أدرك ذلك، ولعل الموسم الذي لاحت تباشيره الآن بأمطار خفيفة متفرقة سوف يبدل الحالة لتعود مياهنا إلى مجاريها، عملت الإدارة سريعاً على حفر آبار ارتوازية ومددت لها الشبكات المطلوبة، وفعّلت وزارة الري القانون 31 لعام 2005 الذي لم يفعل سابقاً في إنشاء جمعيات مستخدمي مياه الري في التجمعات والقرى المحتاجة ولديها مصادر مياه سطحية أو جوفية، وتشمل مالكي هذه العقارات وشاغليها، وعدد الحد الأدنى 10 أشخاص يملكون بحدود 50 دونماً وما فوق، وهي خطوة مفيدة ويمكنها التخفيف من الشدة القائمة، وتستثمر بإشراف إدارة الموارد التي تبذل أقصى جهودها، وتعمل ما بوسعها في محاولة للخروج بأقل الخسائر، وتأمين ما يمكنها من إرواء الأرض العطشى، ومن المفيد جداً أن تعمل إدارة الموارد على حفر الآبار الارتوازية المدروسة بشكل علمي وغير المدمرة والتي تعمل على الاستفادة من كل قطرة ماء، لكن ثمة مخالفات يرتكبها المواطنون في حفر آبار ارتوازية عشوائية ليست مدروسة ومكافحتها تقع على عاتق قانون التشريع المائي الذي يخول الجهة المعنية بمصادرة الحفارة وفرض العقوبة القانونية على المنفذ، ومثل هذه المخالفات لا يمكن ضبطها وحصرها والتعامل معها يقتضي المزيد من المتابعة والعمل، والمديرية حسب مصادرها تقوم بمثل هذه الإجراءات التي من الصعب حصرها على اتساع مساحة المحافظة، ومن المعروف أنّ عدة أمتار من الحفر كانت توصل إلى المياه الجوفية في الماضي، وهذا الأمر يتطلب حالياً حفر أكثر من 100 إلى 120 م وفي بعض المواقع أكثر من ذلك بكثير، هي بطبيعة الحال مخالفة يتم ارتكابها من بعض المتنفذين الذين يستغلونه لضرب القانون عرض الحائط، ومن أجل مصلحتهم فقط بعيداً عن التفكير بغيرهم من أبناء الوطن.
•    هذه الظروف
لابد أنها تقلق أبناء الزرع بالدرجة الأولى، هؤلاء الذين عبّروا عن أنهم تركوا أمرهم للخالق وهم يرون مزروعاتهم وأراضيهم مهددة بالخطر، وفي حال لم تنقذهم أمطار الموسم القادم فسوف يخسرون كل شيء، ولأنّ مسؤولية تأمين مياه الري تقع على عاتق الهيئة العامة للموارد المائية وفرعها باللاذقية، ونظراً لما أكدته التجربة الميدانية من أهمية السدود المنجزة فينبغي أن نذكر أنّ ثمة مشاريع للسدود كانت قد درست وجرت إلى مواقعها جولات علمية، وكنت في سنوات ما قبل الأزمة المؤسفة الدموية التي عاشتها بلادنا قهراً ودماً قد رافقت مجموعات هندسية ومهنية إلى عدة مواقع لإقامة السدود عليها وتميزت بمواقعها الجميلة، وكنت أتخيل بحيرة السد في وسطها تزيد من ذلك السحر، وقعت بعض هذه المواقع في المناطق الساخنة وبسبب الدمار خسرت الكثير من جماليتها وغاباتها وبساتينها، وحسب معلومات سابقة فإنّ عددها 8 سدود متوزعة على مواقع نهر الشيخ حسن. بيت سوراك. سد شقرا. سد وطى الخان. الباشكات. البلاطة. يابتا. ديفة. وقد لا تسمح الظروف الأمنية الحالية بالوصول إلى بعض المواقع المذكورة، لكن من المفيد جداً أن تقام السدود في الأماكن الآمنة، وتؤجل الأخرى إلى حين عودة الأمن والانتهاء من شر المسلحين، الذين عملوا على تخريب سد برادون على طريق حلب، ودمروا مباني الإدارة وسرقوا الآليات وشلوا العمل فيه، وكان من المفترض أن يدخل قيد العمل، وفي هذه الظروف الصعبة التي نمر بها ينبغي أن نتسلح بالأمل وأن لا نفقد الصبر، ولا بد أن الخسائر المادية تعوض، لكن لا تعويض إذا خسرنا الوطن، والجفاف الذي ألم بنا ينتهي، والطبيعة ترحم وتعطي وتنقذ، تقول مصادر الاستشعار عن بعد أنهم ينتظرون موسماً مطرياً سيعوض عما فات، وأنّ الخطر سوف يزول، وبالمناسبة فإنّ قرى الريف تواجه شحاً في مياه الشرب، وكذلك المدن، وهذا ما أدى إلى جعل التقنين عدة أيام متواصلة، ولكننا نرى مصادر الهدر قائمة دون اتعاظ، فغسيل السيارات حين يتوفر الماء يتم في الشوارع وعلانية دون رادع أو رقيب، وكذلك رشّ الأرصفة، وغيرها من الملاحظات التي يمكن أن تسجل يومياً، ولابد أنّ غياب صهاريج الشطف من قبل مجلس المحافظة سيؤدي إلى مثل هذا الهدر بمياه الشرب، رحم الله أبا أيوب وهو الرجل الذي بلغ من العمر 98 سنة وكنت ألتقيه دائماً لأستفيد من خبرته التي يواجه بها العلماء والخبراء حسب قوله، كان ينظر إلى السماء في وقت الظهيرة والشمس ساطعة ولا غيوم ليقول ستمطر مساء وتمطر فعلاً، ويلمس الشجرة المباركة كما يطلق عليها ويحدد عمرها، وكان يتوقع إنتاج المواسم قبل نضجها، ويحدد كميات الثمر أو الخضر التي ستعطيها، مات أبو أيوب ولم أتمكن من أن أطرح عليه سؤالاً حول الجفاف الحالي وما إذا كان سوف ينتهي مع موسم الشتاء القادم.
لم يكن في زمنهم استشعار، ولا أرصاد جوية، كان حدسهم هو الاستشعار ولمسات أصابعهم نافذة إلى صميم عقد الجذع، وبصرهم يجعلهم يتبصرون في قلوبهم وعقولهم، الصدق إيمانهم الراسخ لا يحيدون عنه، ومن الواجب أن نجدد أملنا دائماً في سورية الغالية وعودة خضرتها وتفجر ينابيعها وجريان أنهارها وانتصارها وإنسانها الوفي الشريف المؤمن بها.