بين عظمة جوليا ورقة وصلابة زنوبيا

بين عظمة جوليا ورقة وصلابة زنوبيا

الأزمنة

الاثنين، ٨ سبتمبر ٢٠١٤

زهير جبور
حقيقة الأمر أنّ المصادفة هي التي جعلتنا ننجز موضوعنا هذا. ولابد أنّ العفوية تنجح أحياناً خلافاً لمقولة العلم الذي يرجح التخطيط ويؤكد عليه. وكان الهدف أن نصل إلى مدينة جبلة. لكننا تخطيناها حتى مدينة بانياس وصولاً إلى شاطئ بلدة حصين البحر في طرطوس ومن بعدها بلدات وادي النضارة .الحواش. مرمريتا. الناصرة. وكانت الحرب الشرسة قد حرمتنا مثل هذه الجولات. ليس خوفاً مما يدور في المناطق الساخنة، ولا من مواجهة الموت. بل لأنّ الظروف القاسية الوحشية فرضت علينا حالة نفسية دفعتنا لنخفف من عادات كانت الأساس في حياتنا اليومية. إلى جانب حسابات اقتصادية أخضعتنا قسراً لشروطها. وفيما مضى كان وصولنا إلى تلك البلدات يعتبر أمراً عادياً، نقوم بزيارة الأصدقاء، ونعود في وقت متأخر دون أن تستوقفنا حواجز البطاقات الشخصية. أو الاستفسار عن سبب خروجنا في وقت متأخر. ولم تكن تقلقنا عصابات تقطع الطرق للنهب والسلب، أو تسلل إرهابيين للقتل. كما هي الخروقات الفظيعة التي سمعنا عنها، ومما يذكر عن الأمان السوري الذي افتقدناه -ويا للأسف- أنّني انطلقت من مدينة اللاذقية ليلاً ووصلت حتى مدينة الحسكة ولم يوقفني أحد خلال تلك المسافة الطويلة طالباً هويتي ومن معي. إنّها سنوات الرخاء السوري التي انقضت عليها مؤامرة القتل والفوضى والأوباش.
توقفت عند شاطئ بلدة حصين البحر وتذكرت الراحل سعد الله ونوس ومسرحيته حفلة سمر من أجل حزيران. إنّها الحرب أيضاً والعدو لم يختلف.
ثم دخلت خراب مرقية المكان الأثري الذي يرجع عمره إلى 600 سنة ميلادي وهو في الأصل مملكة رومانية، يتواجد فيها ميناء يعتبر الأقدم بالعالم، وبقاياه قائمة حتى الآن مع الكثير من الإهمال السياحي في الماضي. وبقايا الدير. وصلتنا آراء حول السياحة وجميعها أكدت أنّها للداخلية فقط. ومن المعروف أنّ الموقع كان يستقبل الآلاف من السياح الأجانب والعرب. وازدهرت فيه المنتجعات الترفيهية وانتشرت سمعته في العالم. (الرمال الذهبية) (الشاطئ الأخضر) (الشاطئ الزاهي) وغيرها إلى جانب الشعبية. وهو يمتد على طول 10كم.
يقولون إنّ الغلاء أثّر على السياحة الداخلية. لكنها معقولة إلى حد ما ونشطت في عطلة عيد الفطر، وعيد السيدة، وبرروا أنّنا في حالة حرب، وهذا يعني المزيد من الخسائر، وإذا ربطناها بالوضع الاقتصادي العام. فعلينا أن نقدّر الصلابة التي جعلتنا نقاوم دون انهيار حقيقي وإفراغ أسواقنا من مادة الغذاء اليومي، برغم ارتفاع أسعارها. والمهم قبل كل شيء أن تخرج البلاد من أزمتها والخسائر المادية تعوض.
•    سورية أولاً:
توقفنا في محطتنا الثانية عند مشتى الحلو والمهيري. ويبعدان عن طرطوس باتجاه الغرب 45 كم، طبيعة جميلة وهواء نقي. وفي المهيري التقينا بشاب من البلدة كانت أسرته قد غادرت إلى أميركا. وهو يدرس هناك التجارة والاقتصاد. أعلمنا أنّه يحضر إلى سورية كل عام في الصيف ولا يستطيع أن يستغني عن نسمات الوطن لأنّه الأول في حياته.. يتابع هناك الإعلام العربي والعربي المضاد. يكذب ما يقال عن سورية وشعبها ويناقش الأميركان مقدماً لهم الصورة الحقيقية. وتمكن من إيصالها إلى إعلامهم الذي ساهم في تأجيجها. وتنفيذاً للمخطط الأميركي  الصهيوني. وأضاف أنّ ثمة حقائق يجهلها المجتمع الأميركي عن سورية وشعبها وتاريخها. واعتبر ذلك تقصيراً من الإعلام والثقافة والسياحة، وكان قد شكّل مع بعض الطلاب السوريين والعرب مجموعة هدفها نقل الواقع. والوصول إلى ما يمكن من الإعلام الغربي والشباب الأميركي. واقترح أن تترجم الكتب إلى الانكليزية، وأن تعمل الجهات المختصة على مواجهة الصهاينة الذين يشتغلون بنا دون توقف ويشوهون.
•    المناخ العام:
أثّر الجفاف على مناطق ريف طرطوس وحماة وحمص. وكذلك اللاذقية، وسهول الغاب وعكار  وجبلة وغيرها. ولم تشهد الكثير من المناطق هطلات مطرية، وأخرى أدنى بمعدلاتها، وفي مثل هذا الوقت الصيفي الحار تتشكل الغيوم لكنها غير حاملة للمطر. وفي رأي علمي أنّ العناصر الأرضية المحرضة لحمل الغيوم تراجعت لأسباب كثيرة مناخية. مع ملاحظة التأثيرات المباشرة التي تخلفها القذائف التي تطلق في المناطق الساخنة، وتلويثها للجو العام، وكذلك حرائق الغابات، هي الحرب التي طالت البشر. الحجر .الطير. الشجر . ويا للهول!! وثمة أمر آخر يتمثل في ظاهرة انتشار حفر الآبار الارتوازية، والوصول العشوائي غير المنظم أبداً في الحفر ولا هندسته إلى المياه الجوفية. تحدثوا كانت نسبة المياه في الماضي صفراً فوق الأرض. أي ما يعني تدفق الينابيع، وجريان الأنهار، والمياه تظهر على عمق عدة أمتار قليلة، الآن اختلفت الحالة ليصل الحفر إلى 120-150م ويصرون أنّ على الجهات المسؤولة الحد من هذه الظاهرة حفاظاً على المياه الجوفية. وإلا فإنّ المناطق مهددة بالجفاف بكاملها.
•    الزيارة
حين وصلنا بلدات مرمريتا. الناصرة. الحواش. كان جبل السائح المتصدر والمرتفع أفقياً يواجهنا. ووجه تمثال السيدة العذراء حمل إلى نفوسنا الرحمة والصبر. وكانت الاستعدادات جارية لاستقبال البطريرك يوحنا اليازجي بطريرك سورية. لبنان.العراق. الخليج. وهي زيارة سيتفقد من خلالها أوضاع البلاد. وسوف يلتقي مع المواطنين ويستمع إليهم ويناقشهم في قضايا الوطن. وخاصة أنّ بلدة الحواش قد تعرضت لهجمات مسلحين كانوا قد تموضعوا في الحصن وقلعتها. قبل أن يطردهم الجيش العربي السوري. لتعود الحياة إليها بعد أن شُلّت تماماً. وتتميز بأنّها تحتوي أهم مصانع الدواء، وفيها العديد من الصناعات الأخرى. ويعتبر سوقها شريان الوادي. وهي تعتمد على المغتربين في اقتصادها الداعم للاقتصاد الوطني. الذي وقف مع الوطن بصلابة في أزمته الحالية. وهؤلاء يحملون الوفاء المطلق والحب الأبدي لبلدهم وهم يتغنون بها عاطفياً، وحنيناً، ومناجاة، وشعراً. ويفضلون واديهم ونبعتهم عن كل مظاهر حضارة الغرب. هناك التقينا مجموعة من الشبان والشابات الذين حضروا من المغترب لقضاء إجازتهم، وكما هي عادتهم السنوية يوقتونها مع عيد السيدة. قالت إحداهن: إنّ الزيف الغربي لا يعنينا. ولن نلتفت إليه أو نعيره أي اهتمام. وهناك في بلد الاغتراب نعيش مع سوريتنا الحقيقية. وليس هذا فقط بل نتفاخر في انتمائنا للأمة السورية. ولذلك قرأت التاريخ، ونواجههم به كوثيقة نتفوق بها على حضارتهم المركبة. المصنعة. وأضافت أنّها من سلالة جوليا دومنا الإمبراطورة الرومانية ذات الجذر السوري الحمصي، تقول: إنّها حاملة لشموخها وأنفتها. وتشعر أنّها بداخلها ولم تغادرها لحظة في حياتها. وهي تحمل رقة زنوبيا تدمر. وصلابتها إذا ما هدد الأعداء وطنها، وأرادوا النيل منه. تحدثهم هناك عن امرأة سورية ذاع صيتها في أرجاء العالم. شبان وشابات منهم من ولد في المغترب ومع نموه الجسدي كان ينمو شعوره بالارتباط الذي لم ينفصل عنه، وحمله حنيناً إلى الوطن دون الدنيا كلها. والتصاقاً بكل حبة تراب فيه وهم يساهمون سنوياً أثناء حضورهم في إقامة مهرجان الوادي الذي يعتبر من أهم المهرجانات في الساحل السوري، وكان يتزامن مع مهرجان المحبة في اللاذقية، يحملون ما صوروه عن العيش هنا ويقدمونه هناك، ويعملون جميعهم لإظهار سوريتهم التي يعشقونها حتى الموت. قالت أخرى وهي تتحدث بلهفة وحب والتعبير الصادق يغطي ملامح وجهها (أنظر عندما أغرف الماء بكفي وأشرب من النبع أشعر أنني أكاد أطير حباً وشغفاً وإن مت خارج البلاد فسوف أطلب أن لا أدفن إلا فيها ..) إنّه الإحساس الوطني الصافي الذي يفتقد إليه الكثيرون ممن حققوا ثرواتهم في ظروف الأزمة. ولا يريدونها أن تنتهي كما تقتضي مصالحهم. لكن سورية سوف تنتصر حتماً. وبفضل أبنائها الشرفاء. المخلصين . وستعود أفراحها التي أفقدتها إياها المؤامرة الشرسة والتي ما كانت إلا لتؤكد للعالم أجمع أنّ السوري الحقيقي لا يلين., ولا يهان. والجذر يبقى مغروساً بعمق الأرض كما هي أشجار السنديان التي تغطي تلك الجبال منذ مئات السنين.