الشرّ الدموي قضى على خضرة الخير وجعلها يباساً

الشرّ الدموي قضى على خضرة الخير وجعلها يباساً

الأزمنة

الاثنين، ١ سبتمبر ٢٠١٤

زهير جبور
لم نكن نتوقع أنّ زمناً ما سوف يحل علينا مباغتة، ويحمل ما حمل من دمار، وقهر، وخراب، وهي سورية التي لها مكانتها الأولى في قلوب أبنائها الشرفاء، وزوارها الذين يدركون قيمة التاريخ، وأطلق عليها الوطن الثاني، الجملة الشهيرة لأحد علماء الآثار الذين حضروا ودرسوا وقدّروا، ومثال عظمتها تلك هو سهل الغاب الذي تشكل قبل ملايين السنين بعد الحدث الجيولوجي العظيم، انفصال جبال الساحل عن جبال الزاوية، وتلك الهندسة الطبيعية التي رسمت بينهما سهولاً شاسعة يخترقها نهر العاصي في وسطها ليمنحها شريان الحياة، ولينشط إنسانها القديم والحديث ويحفزه على العمل الزراعي الذي كان يعطي اقتصاداً زراعياً متميزاً، وحين حلت يد الشر حولته إلى يباس، فغابت ألوانه وظهر علينا قاحلاً، رمادياً لا حياة فيه، لا شيء سوى صوت القذائف والرصاص، وحراك مقاتلين في طريقهم إلى الشهادة، كما حدثونا بمعنوياتهم العالية، وإيمانهم الراسخ، وهدفهم تطهير الأرض، وحماية الشعب من أشرار يقتلون لمجرد القتل. يحرقون. يخربون. لإشباع غريزتهم الدموية، التقيناهم في نهاية انحدار جبل الشعرة، حيث الطريق الذي يصل بلدة بيت ياشوط في ريف جبلة بالسهل، ويتفرع منها إلى بلدات سهل الغاب. سلحب. محردة. عين البارد. أبو قبيس. وغيرها الكثير وصولاً إلى مدينة حماة. قبل أن نطل على السهل مررنا بموقع الاستراحات التي أقيمت على جانبي الطريق السياحي الهام، هي مغلقة بكاملها، لا عربات متوقفة، لا زوار كما في السابق حيث كانوا يحضرون للاستمتاع بطبيعة خلابة بين جبلين وغابات الصنوبر والسنديان، ولا تنانير تقدم الفطائر الشعبية، وكانت محطتنا الأولى بلدة أبو قبيس، الواقعة تحت الجبل مباشرة والمتدرجة تضاريسها حسب ميلان الطبيعة، حيث النهر الذي يحاذيها تماماً ونبعه المتدفق من الأعلى ليشكل السرير المغطى بالأشجار المتنوعة، هنا أقام السكان منشآتهم السياحية المشهورة، وفي مثل هذا الوقت من السنة قبل الأحداث كانت تستقبل آلاف الزوار، الذين يساهمون في صنع حركة سياحية، هي الاقتصاد الرئيس للمنطقة إلى جانب أراضيهم التي يزرعونها في السهل، أصوات الرمايات تصل إلى مسامعنا لكنها لن تحول من استمرارية عملنا، فتابعنا، شربنا الماء البارد من رأس العين، ورأينا أشجار الجوز التي يرجع عمرها إلى /250/ سنة كما وضّح لنا من تحدثنا إليهم، والسكان هنا يتميزون بالطيبة والكرم، ولن يغادروا بلدتهم وسيدافعون عنها، وعن الوطن، وهنا تتواجد أشجار التين والعنب، وبكثافة أشجار الصفصاف، ويبلغ عدد سكانها 3000 نسمة، معظمهم يعملون في أراضيهم بسهل الغاب وهم متوقفون بسبب الأحداث، وسياحتهم مشلولة منذ دخول العصابات الإرهابية إلى السهل، ولا موارد أخرى لديهم، تشير المصادر العلمية أنّ أبو قبيس كغيرها من بلدات السهل يرجع عمرها للزمن القديم وتكونت بعد انفصال الجبال، ويمكن ملاحظة تقدم جبل إلى الأمام ليقابله في الطرف الآخر جبل متراجع، بتشكيل ما يمكن أن يوحي بصورة خليج بحري، ولهذا في الجيولوجيا تسمية علمية وخاصة أنّ السهل بين الجبال يمتد بفضاء شاسع ينتهي عند مدينة جسر الشغور، وبسبب كثرة المصادر المائية التي تصب بكاملها بنهر العاصي فإنّ الحياة الزراعية كانت الأولى منذ بداية التاريخ.
•    الواقع الحالي
يقول رئيس البلدية إنّ الدخل السنوي للسكان قد تراجع كثيراً، ولا يكاد يذكر ويستثني الموظفين الذين يتنقلون من البلدة إلى مدينة حماة ويعودون بعد انتهاء الدوام، وهذا الواقع أدى خلال السنوات الماضية إلى فقر وشلل تام خاصة بين الشبان الذين كانوا يعملون بالزراعة، وينتشرون يومياً على امتداد مساحة السهل الذي يستوعب اليد العاملة من جميع أبناء القرى المحيطة، وتتواجد في أبو قبيس قلعة تعود للعصر الروماني, ويعتقد أنّها أقيمت كمرصد متقدم تطل من جهتها الشرقية على الطرف الجنوبي لتقابلها في الغرب سلسلة جبال الساحل، وتشاهد من قمتها مدينة حماة وجبال زين العابدين وتكون الرؤية واضحة جداً قبل المغيب وتكثر فيها الكهوف والنواغيص والحراج.
•    العبث دون رادع
يلاحظ القادم من بلدة بيت ياشوط وبعد مسافة قصيرة الحرائق الهائلة التي قضت تماماً على خضرة الجبال، وهي منتشرة على نطاق واسع مخلفة آثارها المؤسفة جداً، ظننا في بداية الأمر أنّها بسبب القذائف، لكن تبين أنّها أعمال يد العبث التي لا يردعها ضمير ولا حس، وهي عصابات وينبغي أن نطلق عليها التسمية لأنّ خرابها لا يختلف عما يقوم به الإرهاب المسلح، يحرقون للحصول على مادة الفحم وتهريبه ليلاً، وكثر هذا الحرق بعد سنتين من الأزمة، وبعد أنّ حل الإرهاب في المنطقة، وبسبب الاتساع الكبير والتضاريس الجبلية لا يمكن السيطرة ولا الحماية، يقول السكان هي أعمال تخريبية وليست عشوائية تنفذها جماعات تغزوها وتحصل على ما تريد وتختفي، ثروة وطنية هامة جداً من الصعب تعويضها في وقت قصير، ويرجع عمرها لمئات السنين، ظاهرة منتشرة تدمّر الاقتصاد الحراجي، وتؤثر بشكل مباشر على المناخ وجو المناطق بشكل عام، وعلمنا أنّ مثل هذه الأعمال تنفذ أيضاً في غابات اللاذقية، وتجارة تهريب الفحم رائجة جداً ومربحة، ونقترح دراسة هذه الحالة وإصدار قرارات صارمة جداً ورادعة بحق من يضبطون ولهؤلاء طرقهم ووسائلهم، وثمة تجار استغلوا نسوة فقراء في الصعود إلى الجبال وقطف أوراق الغار، والعمل يتم في وضح النهار، وهو لا يقارن بحرق الأشجار، تقوم المرأة بتعبئة كيس الخيش الكبير بالغار ثم ترميه من الأعلى عبر مسيل مائي ليتدحرج الكيس ويهبط إلى الأسفل والحاجة أم الاختراع، ومن المعروف أنّ أوراق الغار متعددة الأغراض والصناعة, لتحضر فيما بعد الشاحنة وتجمع الإنتاج في طريقة يستغل من خلالها جهد هؤلاء النسوة اللواتي يصعدن المرتفعات والجبال للحصول على المال القليل، كما علمنا أيضاً أنّ ثمة عصابات أخرى تعمل في البحث عن الآثار وسرقتها، وإجراء عمليات حفر تتوقع أن تعثر فيها على شيء، هذه المظاهر تحارب، وتشدد السلطات على من تُلقي القبض عليه، لكن المنافذ كثيرة، والمساحات واسعة، وهؤلاء يخططون لأعمالهم وينفذونها.
•    هم باقون
أثّرت أحداث السهل على الحياة العامة، وبدّلت في طبيعة عيش المواطنين وما بقي منهم سوى الفقراء, أما من يملكون المال فقد غادروا، وهؤلاء الفقراء يعاندون الزمن، والإرهاب، ويستمرون في حياتهم، ويرفضون الخروج، وسيدافعون حتى اللحظة الأخيرة، هو إصرارهم، وعلى امتداد القرى من ريف جبلة إلى الغاب، لا يكاد يخلو بيت من شهيد أو أكثر، وحسب توقعهم فإنّ هذا المحيط عرف جثمان 1300 شهيد في بيت ياشوط ودائرتها، دون الخروج عنها إلى بلدات أخرى، ويا للأسف الشديد جداً ثمة من يستغل الظرف ليتاجر ويخرب ويقوم بأعمال ترفضها القيم الوطنية، ومجردة من الأخلاق, وكانت الأحداث قد أظهرت في سنواتها تصرفات شنيعة لم نكن نتوقعها، كانت موجودة في سنوات الاستقرار الأمني التي جعلتها مخفية ليكشف عنها الغطاء وتبرز فاضحة عبر وقائع تبعث على الدهشة حين سماعها، أو التعرف عليها، ولابد أنّ الشرفاء الذين التقيناهم وهم كثر في جولتنا هذه سوف ينتصرون مع كل شرفاء سورية وجيشها ليعيدوا إليها صورتها الحقيقية التي رسختها جذور التاريخ, ولن تلغيها جولة إرهاب أو فساد أو انحراف وخيانة, وسوف يحاربون هؤلاء ويصنفون كل حسب عمله، وما نأمل به أن تسعى الحكومة القادمة قدر ما تستطيع على مواجهة التخريب، وأن تغيب جملة تكررت في الماضي كثيراً (الظروف الأمنية لا تسمح) ولو كنا على قناعة بهذه المقولة لما انطلقنا إلى سهل الغاب ووصلنا إلى بلدات سلحب وأبو قبيس وعين البارد وجورين وغيرها، وبداخلنا الإيمان بأنّ الإنسان يموت حين يدنو أجله ولا يعرف في أي مكان، وعليه أن يقدم لوطنه وهو في أنفاسه الأخيرة،  والعمل المخلص يحقق النتائج الطيبة والإرادة القوية تصنع المستحيل، وما نرجوه أن نعود إلى سهل الغاب وسورية بكاملها منتصرة محتفلة بذلك, وأن نراها وقد عادت إليها خضرة الخير بألوانها الزاهية.