الهروب وسأم الأيام الطويلة

الهروب وسأم الأيام الطويلة

الأزمنة

الاثنين، ٢٥ أغسطس ٢٠١٤

زهير جبور
لا بأس أن نعلنه أمراً حقيقياً لا يمكن التستر عليه ومراعاته، أو حتى التخفيف من وطأته، وأن لا نتردد ونحن نقول إنّه لا صيف ولا سياحة في ساحلنا، وذلك انعكاس قصري على ما يجري من أحداث مؤسفة أخرجت طبيعتنا الصيفية المتنوعة عن مسارها المعتاد، وأبعدتها عن جميع المعالجات مغلقة الثغرات التي يمكن العبور من خلالها، والمشهد العام يبعث على الأسى، ومحيطنا السحري سابقاً مجرد جذوع متفحمة وأراض من سواد متضخم حالياً.
•    هذا الصيف
الذي نعبره ليس طبيعياً بين ارتفاعات خارجة عن معدلاتها وازدحامات مرورية خانقة في شوارعنا، و تضاعف عدد السكان أدى إلى ذلك، وحوّل سبل العيش إلى عقد تحتاج لحلول كثيرة، فنحن على الواقع اليوم نبلغ 2700000 مليونين وسبعمائة ألف مع إحصاء للأخوة الوافدين الذين هم ضيوفنا والواجب يتطلب منا أن نقدم لهم قبل أنفسنا، كثيرون ممن يملكون عربات اتجهوا لقضاء حاجياتهم سيراً، فالقيادة لم تعد تحتمل، وأسعار الوقود آخذة بالارتفاع، وكثيرون هم الذين يقفون طوابير على أبواب المؤسسات الاستهلاكية يتراجعون دون الحصول على المادة بسبب الضغط الهائل، ومع حلول شهر رمضان الذي ودعناه ازدادت الحالة سوءاً، كانت منافذ البحر تخفف بعض الشيء من شدة الحر، وهذه أغلقت في وجوه الفقراء بقرارات من السوق السياحية التي ابتلعتها ولم تهضمها، أو تفرزها مشاريع كما تم الإعلان الوهمي عنها، لذلك فضل أولئك السلق داخل بيوتهم معتمدين على هبات متباعدة من هواء إن فتح باب المنزل أو النافذة وهي غالباً واحدة، ووجدوا ذلك أفضل من أن تسلقهم أجور المواصلات والنقل، والاحتكار البغيض، وغياب منطق الإنسانية الذي تراجع إلى حد ما، مع رعونات السواقة وعدم احترام القانون ومخالفات أخرى، هو ما يجري ولسنا متأكدين إن كانت الجهات المعنية العليا تعلم بذلك أم لا، فالجولات الميدانية ليست مدرجة، ومتابعة الأحوال مفقودة ميدانياً، والقوي المدعم بالفساد هو المدعوم، والمتحصن به يتصدر، وأمثال هؤلاء لن يشعروا أنّ التيار يقطع لساعات طويلة ومولداتهم توفر لهم المطلوب من حفظ للطعام والتبريد والإنارة، ومن لا يعاني لا يشعر, وخاصة حين يتجرد من الهم والحس ولا ينشغل إلا بمصالحه ومضاعفة ثروته.
•    الهروب إلى الهروب
جاءت عطلة عيد الفطر السعيد، هي التسمية المعهودة، حملت إلى النفوس ضجراً وسأماً، حبست من هم محبوسون بطبيعة الحال، قالت ناريمان: الذهاب إلى العمل صباحاً والعودة منه بعد الظهر تبعث بعض النشاط، المهم أننا خرجنا من البيت، أي هربنا من هروبنا، قابلنا الناس.. سمعنا منهم.. كان هذا يضجرني سابقاً، أتمنى اليوم أن لا يتوقف، أتحدث مع المراجعين، أقدم لهم المساعدة وأنا مقدرة أي وضع هم فيه، مستمدة الحال من وضعي، جاءت عطلة العيد... كنا في الماضي نفرح بها، نستغلها للقيام بأعمال خاصة، وجولات، ونزهات، وضحك، لكنها زادت الآن من فراغنا وضجرنا، أما الأخرى فقد سقطت في الحمام وهي تقوم بتنظيفه خلفت لها السقطة بقعة زرقاء بارزة تحت عينها، كان يمكن الحصول على إجازة مرضية.. رفضت ذلك قائلة: لا أنا أقابل الناس وأتحدث إليهم وأنساها ولن أمكث في البيت منتظرة الشفاء، في أيام العطلة الطويلة انطلق الناس إلى مصيف صلنفة، انتشروا تحت الظلال، حملوا طعامهم، وطقوسهم، وهمومهم، وعلهم تمكنوا من الاستماع إلى صوت زقزقات العصافير في غابة (العذر) الكثيفة، وكانت موسيقاها تصدح قديماً لتصل إلى عشرات الأمتار متناغمة، أو أن نسمات الصنوبر قد عملت على تخفيف بعض من احتقانهم وضغوطهم، لكن الحقيقة صادمة وما نسميه تغيير الجو ما هو إلا ذلك الوهم الذي نهرب من خلاله إلى هروبنا ضمن نطاق التغيير، لينقض كابوس الحقيقة منهياً  الحوافز النفسية الآنية جداً التي يظهرها ليتبدد التغيير عند مشاهدة مأساوية كامنة في الداخل قافزة، منقضة، وكذلك فعل أبناء كسب حيث عملوا على مدار أيام العطلة في ما يمكن إصلاحه من بيوتهم، ولم تكن زيارتهم حاملة لطبيعتها السابقة، بسبب غياب الفرح الذاتي الذي لا يمكن أن تعوضه المحفزات الطبيعية.
•    كبروا قبل الأوان
هذا ما قالته أم مجد التي رافقت أولادها إلى حديقة الأطفال وتركتهم يلعبون حسب رغباتهم، عدد أولادها أربعة، بلغت كلفة الحديقة  بعد التقنين ألف ليرة سورية، وهي تقسم أنها وفرتها على مدار شهرين منتظرة العيد لتفرح الأطفال الذين وجدتهم بطبعهم يميلون إلى الحزن وفي شعورهم أنّ ثمة أحداثاً غير عادية دخلت حياتهم، وهي تحاول جاهدة إبعادهم عنها، وكان الكبير من بينهم يوجه أخوته أن لا ينفقوا كثيراً، وحين طلبت إليه أن يكف عن ذلك أجابها: (ماما نوفر المبلغ لشراء الطعام) لا تستطيع أن تصف كم كان لقوله هذا من أثر بالغ جداً على نفسيتها وأجابته (لا يا مجد لا تشغل بالك بموضوع الأكل).
شملني هذا الشعور وأنا استمع إليها، محدقاً في طفل حرقت مراحل طفولته وجعلته يفكر في أكبر من عمره بكثير، وفي أي ظرف تعيش الأسرة السورية وهي تتدبر أمورها  الشائكة جداً، وماذا سيحدث بعد أن تأخذ الصدمة أبعادها في نفوسهم، ومن الحكمة أن يتم الاهتمام المدني والحكومي والصحي بهذا الجانب وجعله من الأولويات، لكن لا أحد يعمل من أجله حالياً، إلا المبادرات القليلة التي تقوم بها جمعيات غير متقنة للعمل، والمستغرب أنّ وزارة الثقافة لم تسارع لدراسة الحالة عبر محاضرات وندوات وحملات توعوية، وجعل الموضوع من الثقافة الشعبية لكنها أقامت مهرجان المسرح وكأن أطفالنا اليوم ليسوا بحاجة لأي شيء سوى المسرح، وهو يعتبر وسيلة تثقيفية في حال اختيار النصوص المناسبة وتحديد الأهداف المطلوبة وهذا لم يتم، لأن تنفيذ المهرجان جاء لمجرد التنفيذ في اللاذقية والدعاية الإعلامية.
•    البحر وأيام العطلة
سابقاً كان أبناء الساحل يمضون معظم وقتهم بين الغابات والبحر، ويتواجد سكان اللاذقية في شواطئ البسيط ووادي قنديل وأم الطيور، ويمضون يومهم في سياحة شعبية لا تتطلب المزيد من الإنفاق، أعداد لا تقارن بالماضي أمّت وادي قنديل وهو الشاطئ الرملي الذي يتناسب تدرجه مع كل الأعمار، أما شاطئ البسيط فليست صورته كما كانت تبدو عليه قديماً، وأخوتنا الوافدون يقيمون هناك بأعداد كبيرة، وشاطئ الدراسات يستقبل عادة الأسر الميسورة الحال ممن تتوفر لها وسائط النقل، أو من يملكون شاليهات، ويميل إليه الشبان من الجنسين الذين يعشقون السباحة في البحر الصخري العميق، ولا يعتبرونها هواية بل احتراف، ولهذا السبب وجد المسبح المصنع بداخله ليستقطب الأطفال والنساء وغيرهم ممن يخشون السباحة أو لا يجيدونها، لم تعش اللاذقية عطلتها كما كانت قديماً، ونسبة كبيرة جداً دفعتهم ظروف الحر للفرار إلى الكورنيش الجنوبي والشمالي حاملين كميات لا بأس بها من بزر ميال الشمس والنراجيل، وهي الحالة الترفيهية التي فرضتها الظروف المالية، وكانوا يتوقعون كما عبّروا زيادة في المرتب الشهري والإشاعة انتشرت على نطاق واسع جداً ودارت أحاديثهم حولها، تأكيدها، صدورها، ثم تلاشت، ليدركوا أنها إشاعة، وبقيت هكذا.. فهل ثمة من رجاء؟
سوف أخالف قول الشاعر المرحوم محمد الماغوط في أنّ الفرح ليس مهنته، لأقول ينبغي أن يكون الفرح مهنة الشعب السوري وهو صانعه، وقد تفرض الظروف قسوتها لكن عليها ألا تُجر إلى اليأس وإضاعة الأمل, وسأكون مع شاعر فلسطين وغزة تُدمر في العيد بسبب البطش الصهيوني (ادفنوا أمواتكم وانهضوا) والحياة سوف تستمر والنهوض يخلق الفرح ويصنع المستقبل.