اليد الوافدة غيرت مفاهيم السوق

اليد الوافدة غيرت مفاهيم السوق

الأزمنة

الأحد، ٢٠ يوليو ٢٠١٤

زهير جبور
حل شهر رمضان المبارك في أصعب أشهر السنة صيفاً وحرارة وعطشاً وطولاً، لكنه الإيمان بالخالق جلّ جلاله، يذلل الصعاب ويلغيها، ولقاء الإنسان مع ربه فوق كل مغريات الدنيا بما فيها، ولحظة الخشوع تطهّر النفس، وتبعث الأمل، وتجدد خلايا البدن، ويا مرحبا بالشهر الكريم المبارك في كل الأوقات، وله أيام الحرب خصوصيته، وبالسلم طقوسه وشغفه، وهو محطة كل عام، مناسبة لنتأمل ونفكر، ونسترجع ما فعلناه، هكذا قالت سلوى وفي الشهر المبارك تتلو آيات القرآن الكريم تسبح الخالق وتستعطفه أن يغفر لها ذنباً اقترفته عن سهو منها، أو خطيئة جرتها إليها العفوية، أو إساءة ارتكبتها دون أن تدري، جميل هذا الشعور حين ينبع من الذات الصافية. النقية. والوقوف مع النفس حالة مستعصية إن لم يكن مستمداً من طاقة الروح وإلهام الإيمان والتمسك به.
•    كيف دخل
بين مواقع ساخنة تدور فيها المعارك مع المسلحين، وأخرى تتساقط فوقها القذائف، كانت حياة أبناء اللاذقية تمضي إلى أن جاء تحرير كسب قبل الشهر المبارك بفترة قصيرة، وانتصارات الجيش العربي السوري على امتداد سورية الغالية، ما بعث الطمأنينة والأمل في يوم الخلاص القريب والانتصار، وعودة الحياة إلى ما كانت عليه، وما جرى أن ثمة استقراراً شهدته المحافظة في ساعات تقنين الكهرباء والماء، وتعايش الناس معها، ومع المساء الأول للشهر المبارك بدأت ساعات التقنين الطويلة جداً وانقطاع المياه، وزحمة الأسواق وفوضاها التي نعرفها سابقاً لكنها تصاعدت مع المناسبة، وتحولت إلى سباق لارتفاع الأسعار خاصة وأن إخوتنا الوافدين يجدون في الشهر المبارك مناسبة لتعدد أصناف الطعام، ولسهراته نكهتها الخاصة فيما بينهم، وجميعهم أرادوا أن يحصلوا على متطلباتهم وأن لا يبتعدوا عن فرحة الشهر برغم الظروف، وجرت العادة سابقاً أن يقوم السيد المحافظ وصحبة من المعنيين بجولة تفقدية للاطلاع على أحوال السوق وكيف تجري الأمور، ويعطون توجيهاتهم، ويشاركون الناس ويستمعون إليهم، ولم يحصل، ربما حسب تقديرهم ليس ذلك ضرورياً، وفي مثل هذا الغياب لا بد أن النفوس الضعيفة التي لا يعنيها إلا مصالحها سوف تجدها مناسبة لممارسة نقصها، وهو ما حصل، ومع الساعات الطويلة لليوم وانقطاع التيار صباحاً وظهراً وليلاً، فسوف يبطل مفعول الثلاجات، وتفسد بداخلها الأطعمة، وهو الإرهاق المادي الثقيل الذي يتحملونه، وقد حددت فاطمة الحلبية كمية الطبخة واستهلاكها اليومي بسبب انعدام وسيلة الحفظ وضمانها، تقول.. إنها في هذا الشهر كانت تقدم لأفراد أسرتها وجيرانها في حلب طبخات شهية تتعب على إنجازها، ووضحت أن المطبخ الحلبي مشهور بتنوعه وذوقه وطعمه، حسب رأيها لم تلحظ ذلك في المطبخ اللاذقاني، خاصة وأنها بسبب الظروف تنقلت بين عدة أحياء، وأقامت علاقات ممتازة مع الأسر وهؤلاء لا يعيرون المطبخ انتباههم، وتعتذر فالتقصير ليس من سيدات الأسر، ربما يكون بسبب البيئة والمناخ، وتضيف كنا في حلب نستعد للشهر المبارك قبل عدة أشهر ونخزن المواد.
•    تبدل المفاهيم
جرت العادة القديمة بين أبناء اللاذقية أن يستعدوا للشهر المبارك، وله أيضاً طقوسه المعهودة، وكانت الأحياء الشعبية تتبادل فيما بينها الطبخات والسهرات، ويقدمون المساعدات للفقراء، لكن مطبخ اللاذقية المنزلي لا يتميز فعلاً وهو عادي ويعتمد في أغلبه على السمك بحكم مهنة الصيد التي يتقنها الصغير والكبير، وذلك حين كان البحر غنياً يعطي بسخاء، قبل أن تهاجمه سفن الصيد الجائر، وأطنان (الديناميت) التي تستعمل بلا رقابة ومحاسبة، وهذا يشمل الأسواق بكاملها، والبناء العشوائي المخالف، وخرق القانون، ونسف القيم، والتخلي عن أدبيات الماضي بما تعنيه، وقبل أن يلحق الفساد بالمؤسسات والدوائر والأشخاص وعلاقات الناس فيما بينهم، والكل يفتش عن "الأنا"، وما حدث شيء يبعث على الدهشة فعلاً، وكما يبرر من يهمهم الأمر بسبب الظروف الأمنية، وهذه طالت في فسادها الثقافة بشكلها العام، والعلاقات السليمة التي استبدلت بالدجل الاجتماعي، ومع قدوم الأعداد الكبيرة من الإخوة الوافدين الذين انتشروا ليعملوا في كل مجال ظهرت لدينا باللاذقية مفاهيم لم تكن معروفة سابقاً وتمكنت اليد الوافدة البارعة من استغلال كل متر ينسجم مع طبيعة العمل، أهل اللاذقية لم يكونوا مهرة في أعمالهم، ولم يكن لديهم المقدرة المهنية، وليست المسألة محصورة بالطبخ وحده، بل بكل ما يخص الاقتصاد والعمل والسوق، ولهذا وجدنا في مرحلة معينة قلع أشجار الزيتون لزراعة الحمضيات مكانها وبعد ذلك تمت خسارة الزيتون والحمضيات ليحل مكانها البناء والربح السريع دون التخطيط المستقبلي، مما أدى إلى غياب البرمجة، وأقيمت صالات للأعراس امتدت على الشاطئ والجبل والمدن، ولم تراع عدد الأعراس، جاءت اليد الوافدة الحلبية المبدعة، حولت صالة شهد العسل طريق جبلة إلى معمل لإنتاج (الجينزات) بمختلف أنواعها، وصالة (ميغاريت) على طريق كسب إلى معمل للألبسة المختلفة مع افتتاح لبيع المفرق، وتحولت أماكن عديدة إلى معامل نسيج منتشرة في جبلة والريف واستقطبت اليد العاملة، استفاد منها أبناء القرى القريبة ولم تكن مثل هذه المشاريع المتوسطية والصغيرة تعني اقتصاد اللاذقية، وكان الموضوع ينحصر في (منتدى) (مقهى) (كافيتريا) (كافي نت) حتى أصبحت أعدادها لا تحصى وخدماتها (نرجيلة) وقتل الوقت دون فائدة. ويتحدث أبناء حي الزراعة عن ورشة حلبية لإصلاح الأحذية تم افتتاحها مؤخراً، وأبسط تعليق أنها تعيد الخفافة الرياضية القديمة جديدة، ويقولون في اندهاش يتغير الوجه العلوي بكامله، وتشهد هذه الورشة التي سميت (كريستال) إقبالاً شديداً، لأن أهل اللاذقية لم يكونوا قبل ذلك يعرفون أن ثمة يداً ماهرة في حلب تصنع وتجدد وتستقطب وتستغل كل شبر من الأرض دون تفريط به، وما أدهشهم أكثر تلك المعجنات التي لم يكونوا يعرفونها من قبل، حلويات بأشكالها وطعمها وجودتها، لغة تجارية يتقنها الجميع دون استثناء، وهم يخططون لعملهم ويبرمجونه ويمارسون وسائل وصولهم إلى هدفهم المطلوب.
•    الفائدة
حديث سكان اللاذقية يدور اليوم حول تلك المهارات الخارقة التي تعرفوا عليها وهم يجدون أنفسهم عاجزين عن التعبير فعلاً، وللُفافة الفلافل فنيتها وجودة صنعها، ولخبز رمضان طريقته التي ترضي الأذواق، الشاورما. اللحوم. ولا بد أن ذلك أثر على سوق اللاذقية، وهو يتجاوزه صناعة واتقاناً، ومع قدوم الشهر المبارك الفضيل ثمة معروضات كانت مجهولة، ربما يزيل ما حدث كسل الرطوبة المناخية التي كانت تبعث على الاسترخاء الدائم، وتؤثر على التفكير، لأن التثاؤب يعيق النشاط، ولعلها تجربة ينبغي أن يستفاد منها ونستخلص العبر التي وصلت وبعد الانتصار القريب ما أرجوه أن تطبق خبرة الإخوة الوافدين التي قدموها لنا مشكورين وتستمر وتتابع وأن يُلحظ أن ثمة فرص للنجاح كثيرة لكن بعيداً عن تأثيرات الرطوبة والنرجيلة والاستسهال الذي لا يعطي نتائج إيجابية، وكل عام وأنتم وبلدنا الحبيب وشعبنا الطيب بخير.