من هسهسة الطيور إلى وقع أقدام الخراب

من هسهسة الطيور إلى وقع أقدام الخراب

الأزمنة

الاثنين، ١٤ يوليو ٢٠١٤

زهير جبور
هل داهمك نسيمها وأنت تستنشق من الهواء أنقاه وسمعت شدو طيورها وهي تمزج بين الحنين واللحن في أوبرا الطبيعة حيث لا نشاز ولا صخب إلا لطيور مشاكسة يجمعها الفرح على غصن، وهل حملك الخيال بين أزمان من التاريخ، وصوت جرس الكنيسة يتردد صداه، بعيداً في فضاءات الصنوبر والسنديان، المصادفة المرسومة جعلتك تتظلل تحت أشجار الدلب وتشرب من نبع الدلبة الكبيرة، تضيف إلى السحر لوناً آخر مرسلة رنيمها المنساب في عزف من ماء وقصيدة شعر تجمع بين الوزن والحداثة، صورة متفاعلة هناك وأخرى معبرة وكلاهما يصنعان معجزة الخلق، إنها كسب وهو الألم الذي جعلني أدخل في مقدمة كهذه يعجز التعبير عن الوصف أمام الهول، كسب المحررة.. يا لهذه التسمية التي ما كنا نفكر يوماً أنها سوف تطلق عليها.. كسب من الجمال إلى الخراب، من هسهسة الطيور إلى وقع أقدام الإرهاب، من العذوبة إلى القنابل والصواريخ والحرق ويا لها من مفارقات، عاد سكانها ونفّذ جيشنا وعداً قطعه أنهم لن يتأخروا وتحقق فعلاً، وكانت الطريق إليها ليست كما عهدناها سابقاً، كانت طريقها تبعث في النفوس البهجة ورويداً كلما دخلنا في العمق كانت الكآبة تتلاشى وتتفتح العروق، وتتحفز الخلايا لعناق الطبيعة وتلاحم إنسانها بها، كئيبة هي الطرق هذا اليوم برغم الانتصار والعودة.. وكنائسها بلا أصوات لأن أجراسها نهبت، وحطمت اللوحات بداخلها وكانت تحمل رموزها وأمجادها، وحفرت طرقاتها وانهارت أعمدة الكهرباء العملاقة، وحين يحل الخراب يشوه طروب الحياة.. هو ما حصل.
•    كسب الغار
تقول مادلين ابنة كسب وهي تطلق نظراتها في الاتجاهات متأملة بقايا الطغاة وما ارتكبوه، أتعلم لماذا اختار أجداد الهجرة الأرمنية كسب للإقامة فيها؟ لأنهم ارتبطوا روحياً مع شجرة الغار، وهي المدللة عندنا حتى اليوم، انظر كيف أحرقوها، كيف شوهوا مساحاتها، أترى تلك التلة المسماة النسر، كانت كثافة الأشجار على قمتها تغطيها بلون أخضر على مدار العام، وهي النسر الشامخ، ولم يتمكن البشر من الوصول إليها، وإن فعلوا فلا يستطيعون السير بداخلها يصدهم الجذع العريق في أصالته وفروعه المتشابكة كخيوط حلم لا تنفصل عن بعضها، لكن الشر حين يعم يحرق الأحلام، ويخترق التشابك، أنا لم أغادر كسب منذ ولادتي، حملتها معي إلى البلدان التي زرتها، وكان شوقي إليها يكبر حتى أعود واستنشق هواءها، وأتحدث عنها بلوعة المحب، وأمثلها دائماً كعروس مزينة متربعة على كرسي ليلة زفافها، طائرة بين الأرض والسماء، عدت من سفري سريعاً، أنجزت أعمالي واختصرتها من أجل الركوع على أرض كسب نظيفة من الرجس والاغتصاب والقهر، ولمن لا يعلمون ماذا تعني بالنسبة لأبنائها عليهم أن يعرفوا أنها لا تهون، قد تهون الأرض إلا سورية التي عشناها أعزاء. كرام. فكيف ننكر ذلك، إن كان فينا البعض القليل من الأصل، ولأننا نحمل منها الكثير فسورية لا نستبدلها بكل العالم، ونجدها الأكثر حضارة ورقياً، وعلمانية من الغرب بما فيه، أقول لك بصدق: أبلغ من العمر الآن 35 سنة وزرت الكثير من بلدان الدنيا ولا أذكر أنني استبدلت صابون غار كسب الذي كان يرافقني دائماً، وشعوري أن جسدي لا يتقبل سواه مهما غلا سعره، وندر وجوده، أدمعت مادلين ونظراتها تمسح الأمكنة وحزنها يطفو على ملامح وجهها لتحوله إلى تقاطيع فرح وهي تؤكد وجودها على أرض كسب محررة.
•    التاريخ حسب مصدره
لا تنحصر قيمة كسب في طبيعتها ومحيطها، بل هي ذات عمق تاريخي، وما فيها يعتبر إرثاً عالمياً وليس محلياً، وفي كنائسها وأديرتها أيقونات ترجع إلى الفترة البيزنطية في القرنين الرابع والخامس وصولاً إلى السادس الميلادي، أما أيقوناتها فهي للقرون السادس. السابع. الثامن عشر، وثمة لوحات فنية وأجراسها ما بين القرنين 18-19 وأخشابها التي تزين سقوفها وجدرانها وبوابات فريدة من نوعها. نادرة في العالم، استُهدفت وسُرقت وحرقت ودمرت، أما الأضرار الأخرى فمهما بلغ كبرها المادي لا يقاس بالقيمة التاريخية التي شوهت ولم تمتد إليها يد منذ القرون المذكورة، وكنّا في مجلة الأزمنة قد قدمنا معلومات عن كنيسة السمرة التي أهملتها جهاتنا الأثرية عبر سنوات طويلة، وتمت المحافظة عليها من قبل أهالي السمرة أنفسهم، وكانوا في الأعياد الدينية والمناسبات المتنوعة يجتمعون حولها ويقيمون طقوسهم ويحضرون من كل دول العالم، شملها الخراب والنهب هي الأخرى، ولا بد لدارس تاريخ كسب من أن يرجع لما قبل الميلاد ومملكة أوغاريت وربطها الجغرافي الطبيعي بمنطقة لواء اسكندرون السورية حيث بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، وهي التسمية المستمرة حتى الآن، وما توفر للأجيال تلك القيمة التاريخية للمنطقة المعنية، ولا نعتقد أبداً أن ما نفذه الإرهابيون جاء عبر المصادقة بل هو خطة عثمانية أردوغانية خبيثة تهدف إلى طمس التاريخ، وعملت الحكومات العثمانية القديمة والجديدة على ذلك ضمن خطط اختلفت بين زمن وآخر.
•    هذه الأهمية
أمام تلك الأهمية التاريخية كان من المفترض أن تسارع الجهات المسؤولة لتشكيل لجنة مختصة ذات معرفة تاريخية علمية وإرسالها مباشرة للاطلاع على أماكن التدمير والنهب وإجراء الجرد اللازم والتدقيق فيما نهب وحرق، وتوثيقه والمباشرة بدراسة الحلول المناسبة وإعادة تأهيل الأماكن بما يتناسب وطبيعتها التاريخية والتراثية، وكنا قد اقترحنا سابقاً إنشاء لجنة تاريخية توثق مجريات الأحداث المؤسفة الدامية التي شهدتها المواقع الساخنة في جميع المناطق، مثل سلمى. جبل النبي يونس. ربيعة. غابات الفرنلق. محيط كسب. السمرة. ونقل التفاصيل من أجل الأجيال القادمة، وما سوف تتناقله الذاكرة الشعبية بعيداً عن المرجع التاريخي، اكتفت الجهات المعنية في اللاذقية بإرسال ورش الكهرباء والماء والهاتف والطرق، ومن واجبها أن تسرع في هذا العمل وتعيد البنى التحتية، وسارع أبناء كسب لتفقّد ممتلكاتهم وأرزاقهم ودخلت كاميرا التلفاز إلى الكنيسة مستعرضة ما لحق بها من أذى، وصدرت تصريحات مسؤولة بإعادة الحياة والسياحة وغيرها، لكننا لم نسمع حتى الآن بتشكيل لجنة تاريخية. أثرية مختصة، أو بأن ثمة تقرير علمي أولي يقدر مدى أضرار التاريخ مع الحلول المطلوبة والإجراءات المناسبة، وهذا ما جعلنا نجري اتصالاً مع السيد الدكتور أوس عثمان رئيس مجلس محافظة اللاذقية الذي أبدا استعداده لمثل هذا العمل الذي يتطلب مشاركة من الأوقاف ورجال الدين وجامعة تشرين والإعلاميين، والمختصين، والمهتمين من المجتمع المدني، الذين تتوفر في دراساتهم تفاصيل يمكن الاستفادة منها عند الحاجة.
•    العودة
بدأت الحياة تعود تدريجياً إلى كسب، ويتفق جميع أبنائها على قرار واحد هو التمسك بأرضهم وإعادة إعمارها وإصلاح ما خرب فيها وهم يقدمون تقديرهم واحترامهم الكبير للجيش السوري الذي قاتل بتضاريس غاية في الصعوبة وينحنون إجلالاً لشهداء الوطن وفي عهدهم أنهم باقون مع سورية الأم والوطن والحلم ولن تبعدهم عنها قوة مهما عظمت ويترقبون كما كل أبناء الشعب السوري يوم النصر الكلي القادم.