دعوة للحفاظ على الثروة المتراجعة

دعوة للحفاظ على الثروة المتراجعة

الأزمنة

الثلاثاء، ١٣ مايو ٢٠١٤

زهير جبور
منذ البداية ارتبطت الزراعة مع الإنسان، وحين تمت معرفتها شكلت منعطفاً كبيراً في حياته واستقراره، ولعله بفطرية تامة أدرك معنى إنتاجها وأهميتها في استمراريته، خاصة وقد أدرك أن حبة القمح فيها السر العظيم الذي رافقه من رغيف الخبز وصولاً إلى عالم المعجنات، وقد أصبح علماً يدرس في كبرى المعاهد والجامعات..
في ساحلنا السوري؛ وإذا ما توقفنا عند الزراعة سوف نلحظ بعض مشاكلها القائمة منذ سنوات طويلة موزعة على إنتاج الحمضيات والزيتون والأرض الزراعية وغيرها، والثروة الحيوانية التي سنسلط الضوء عليها عبر موضوعنا، قد شهدت تراجعاً بسبب الأحداث الدامية التي ألحقت الضرر في تربيتها وإنتاجها، وأعداد قطعانها وما ينتج من مشتقاتها الغذائية، وهي بطبيعة الحال لا يمكن الاستغناء عنها، وقطاعها يتعرض لأضرار لها تأثيرها المباشر على ارتفاع نسبة البطالة الريفية، بعد أن تبدل خطاب الإخوة الفلاحين الذين طالبوا سابقاً بضرورة الإسراع في إنشاء معمل الأجبان والألبان، وقُدمت لهم الوعود، لكن الحال بقي ولم ينجز المعمل، إلى أن حلّت الأحداث في خرابها وتدميرها، ولا بد أن الأرقام التي كانت تحملها التقارير السنوية قبل الأحداث كانت تغطي نسبة الاستهلاك وتوفر المواد، لكنها من بعدها تحتاج لمزيد من الدراسة وقد ارتفعت الأسعار آلياً وبشكل سريع جداً.
   
ما قبل هذا؟
كنت أنطلق صباحاً إلى منطقة المقاطع المحاذية لموقع أوغاريت الأثري ذات الامتداد الفسيح وكثافة الأشجار وتنوعها، كان هذا قبل سنوات الخراب التي حلت، وكان لقائي الصباحي مع أبي حسن وولديه، والعربة الشاحنة الصغيرة وصندوقها يحمل براميل الحليب المجهزة خصيصاً لجمْعه من منتجي المنطقة ونقله إلى الاستهلاك أو التصنيع البدائي بسبب عدم وجود المعمل الذي طال انتظاره ولم يحضر، وكان يومذاك وهو ليس ببعيد جداً سعر كيلو اللبنة 25 ل.س فيما يصل اليوم إلى 600 ل.س، وهذا ما يشير إلى تدهور الوضع الإنتاجي والعزوف عن التربية بشكل عام ولهذا مسبباته؛ ومعاناة تواجه المنتج في عمل صعب يتطلب الدقة والحرص والجهد. وكنت حين أرى أبا حسن يجمع الإنتاج ويناقش الأسر ويسألهم أحياناً عن سبب تراجع الكمية، يأتيه الرد أنهم استعملوها للاستهلاك المنزلي.. وكانت الفرحة في قلوب الجميع، هكذا كنت أشعر معهم بالاستقرار والأمان، تعمدت في الأسبوع الماضي الوصول إلى المقاطع بعد غياب، وسألت عن أبي حسن الذي غاب ولم يعد يحضر، وجاءني رد إحدى المسنات( يا حسرتي يا ابني وين الحليب هلي بدو يجيبو أبو حسن وغيرو) وبرغم بساطة الرد إلا أنه حمل قسوة مضاعفة وفيها حياة الفقراء، وهم يواجهون صعوباتها من تأمين لقمة العيش وصولاً إلى الدخل الذي يكاد أن يكون شبه معدوم، ويقول المربون إن سعر العلف للأبقار من المؤسسة هو 30 ل.س دون أجور النقل، وما يحصلون عليه لا يكفيهم سوى عدة أيام، مما يدفعهم للاستعانة بالقطاع الخاص الذي يبلغ سعر الكيلو عنده 60-65 ل.س، حسب النوعية، وبالتالي فإن القسم الأكبر من الربح سيعود إلى التجار الذين يتحكمون بالسعر، وهذا ينطبق على بقية القطعان من الغنم إلى الدجاج وهو ما أدى إلى الارتفاع الجنوني لسعر البيض المنتج في المداجن مع غياب تام للبيض البلدي، الذي كان ينقل إلى أسواق المدينة ويباع بداخلها وكثيرون كانوا يفضلونه لأنه بلدي صرف، وصل سعر البيضة البلدية اليوم إلى 45 ل.س، فمن يأكلها إن وجدت؟، وتتعرض الأعلاف إلى احتكار من التجار بشكل انعكس على الإنتاج بصورة سلبية وخاصة في ظل ارتفاع أسعار الأدوية واللقاحات مما جعل التربية دون جدوى ربحية، فثمة جهود كبيرة في العمل، ولكل دابة ساعات في إطعامها وملاحقتها والعناية بها، وهو ما ينهك أفراد الأسرة، الذين كانوا يقومون بالعمل من أجل مدخوله، ولا بد أن شعار تربية بقرة واحدة ينافس مرتب وظيفة قد انتهى حالياً، لا ربح في العمل وكله خسارة، وهذا ما جعل الكثيرين يتراجعون عنه، ومن واجب الحكومة الآن والجهات المعنية أن تتدخل وتؤمن الأعلاف بسعر معقول خاصة وأننا فقدنا الكثير جداً من المراعي التي كانت تجذب سابقاً أبناء المحافظات الشرقية مع قطعانهم وخيامهم للاستفادة منها، وهو ما كان يوفر كميات أكبر من الإنتاج الحيواني ويؤدي إلى تخفيض منطقي في أسعارها مع الربح المعقول جداً لمنتجيها، يقولون لمن سنعمل الآن لجيوب التجار؟ وهو منطق سليم برغم انعكاساته السلبية على المواطنين والاقتصاد، يقول أحدهم: تعال لنجري مقارنة (يصل سعر كيس العلف وزن 50 كغ من الجهة الرسمية 1300 ل.س وسعره في القطاع الخاص 3500 ل.س إلى 4000 ل.س والأدوية واللقاحات ارتفعت 400% هم يطالبون بالدعم والحماية ورفع الاحتكار من التجار والعقوبات الصارمة لمن يمارس مثل هذه الأعمال، والسؤال الذي يفرض سطوته القهرية في حال عدم التمكن من شراء البيض والجبن واللبنة فماذا على الفقراء، وأصحاب الدخل المحدود أن يتصرفوا؟ وارتفاع سعر عبوات الحليب في الصيدليات التي كان يستعاض عنها بالحليب المنتج الذي يُحضره إلى البيوت أبو حسن وأمثاله ممن غابوا عن ساحة العمل، كيف يمكن التعامل مع الأطفال أن لم يلب ثدي الأم الحاجة، وكلها أحوال تحتاج لحلول وإجراءات إسعافية سريعة جداً، والمرتب الشهري لا يسد حاجة أسبوع من الإنفاق على الأكل من عادي بعيداً عن البروتين واللحوم والبقول.
   
أرقام أخرى
هذه الآراء التي حصلنا عليها من الواقع تقابلها في الزراعة أرقام، وحسب المصدر فإن 90 طبيباً و321 مراقباً بيطرياً و70 مهندساً للإنتاج الحيواني يقومون على تقديم الخدمات المطلوبة للقطاع الحيواني، وهم يمارسون عملهم في الإرشاد على كامل مساحة المحافظة، ومهامهم مجانية تشمل التشخيص والمعالجة والدواء المناسب وإجراء الفحوص المخبرية وعمليات البحث عن الأمراض وأسباب تواجدها، وإجراء الاختبارات والعيّنات على الحليب، والتلقيح الصناعي، وإقامة ندوات التوعية والحرص على استمرارية التربية وزيادتها، وثمة ندوات إعلامية وتوعوية وإرشادية للعودة إلى الاقتصاد المنزلي، والإنتاج الذاتي لسد حاجة الاستهلاك، والاستغناء عن السوق ما أمكن فيما يخص هذه المواد، وإمكانية تأمين متطلبات أبناء المدن الذين لا يملكون أية مساحة صغيرة للاستفادة منها واستغلالها، وما يلفت نظري فعلاً أولئك الذين يهملون الفراغات المتوفرة في شققهم وبيوتهم خاصة الأرضية ولا يجعلونها حية نابضة مثمرة، وإذا عدنا إلى طاقم الزراعة وعمله وهو قبل الأحداث كان يعطي بعض نتائجه المطلوبة فماذا يمكن لهذه الكوادر الفنية والطبية والمختصة القيام به حين تسقط قذيفة حاقدة على قطيع المواشي وتفتك به، حدث ذلك، وفرت قطعان، وهاجرت حيوانات الوديان والغابات أماكنها، والطيور مبكراً بسبب فقدانها الأمان، وبرغم ذلك ينبغي أن يتواصل العمل وأن تقدم الجهات المعنية التسهيلات اللازمة والقروض المالية وأن تتواصل ميدانياً وإعلامياً للعودة إلى النهوض بثروة الذهب المتحرك على القوائم، وهي في مثل ظروفنا الحالية أنفع منه وأكثر ضرورة وإلحاحاً، هل سيتم التوجه نحو ذلك؟ وهل سنجد إجراءات على صعيد الساحل السوري تجدد نشاط تلك الثروة، وتقدم لها، وتحرص عليها، المعاناة كبيرة والحلول لا وجود لها حالياً، والأمن الغذائي يتطلب زجّ جميع الطاقات من أجله وأن لا نترك للاحتكاريين من التجار ذوي النفوس الضعيفة السيطرة والاستغلال ويكفي ما صنعوه في قوت المواطن وطعامه، والأسعار بشكل عام وصلت إلى حد يعرقل سبل العيش ويخلق التوتر النفسي والقلق المتصاعد دائماً، من المفيد أن نعلل النفوس ونتمسك بالأمل الذي لا يحققه إلا العمل مهما كانت الظروف صعبة.