في ظل تراجع القدرة الإنتاجية للصناعة الوطنية..الحماية الصناعية وقانون بقي مكبلاً بانتظار تشريعات استثنائية

في ظل تراجع القدرة الإنتاجية للصناعة الوطنية..الحماية الصناعية وقانون بقي مكبلاً بانتظار تشريعات استثنائية

الأزمنة

الثلاثاء، ١٥ أبريل ٢٠١٤

أحمد سليمان
بقدر ما يمنح الانفتاح الاقتصادي على الآخر فرصة الاستفادة من التجارب الخارجية لتقوية القدرة التنافسية للمؤسسات والشركات المحلية وتعزيز تواجدها في الأسواق الداخلية والمحلية من وجهة نظر أكاديمية أو نظرية؛ بقدر ما يكون هذا الانفتاح مضراً ومهلكاً للمؤسسات الداخلية إذا لم يكن مدروساً من مختلف الجوانب والقطاعات وخاصة المنتجة منها.
فما دفعته الصناعة الوطنية من ثمن في بداية سنوات الانفتاح الاقتصادي والسنوات التي تلتها كان باهظاً أدى إلى إغلاق آلاف المنشآت الصناعية وخاصة الصغيرة منها والتي لم يكن لديها القدرة على المنافسة بمنتجاتها ذات التقنية المنخفضة والكلفة العالية والأسعار غير المنافسة أمام السيل الكبير والعارم للمنتجات العربية والأجنبية والتي دخلت الأسواق المحلية لتأكل جزءاً كبيراً من كعكة المنشآت المحلية بفعل منافستها في الأسعار؛ ما جعل هذه المنشآت عاجزة عن البيع بأسعار تنافس أسعار المنتجات المستوردة ولتنكفئ شيئاً فشيئاً على مستوى الإنتاج ثم المبيعات لتصل إلى مرحلة الإغلاق وتسريح عمالها.

بلا مجابهة
فمنذ أن فُتحت أبواب الاستثمار الداخلي والخارجي في بداية التسعينيات مع صدور أول تشريع قانوني لهذه الاستثمارات ودخول القطاع الخاص سورياً وأجنبياً لاغتنام فرص الاستثمار تركز آنذاك في القطاعات الخدمية كون دورة رأسمالها قصيرة واحتياجات الاستثمار في هذا القطاع من الأموال ليست بكبيرة، وبخاصة  أن قطاع النقل آنذاك في سورية كان متعباً ومنهكا ولم تعد وسائله القائمة في ذلك الحين قادرة على المنافسة ولا المجابهة في مقابل السيل من المركبات التي لم يزل جزء لا بأس به موجوداً حتى الآن رغم مرور أكثر من عقدين...
لكن ما شهدته الصناعة في بداية سنوات الانفتاح من الاستثمارات كبيراً، ولم يكن هذا القطاع مغرياً، إلا للمستثمرين الصناعيين الذين كانوا يعملون في بعض القطاعات والصناعات التي تركتها لهم الدولة للاستثمار فيها، إلى جانب توزع وتركز استثماراتها في القطاعات الصناعية الرئيسة والتي كانت إلى ذلك الوقت ورغم تراجع مردوديتها وقِدم آلاتها إلا أنها كانت له الحصة الأكبر في سوق شبه مغلق لم يشهد أي تنافس، وركنت تلك الشركات إلى ما يشبه الإنتاج النمطي والمواصفات الجيدة من حيث المضمون وضمن المواصفات القياسية السورية الموضوعة منذ زمن؛ في حين أهملت موضوع شكل المنتج لعدم وجود ومنتجات مماثلة منافسة لها إلى جانب التسعير الإرادي والذي كان يحقق بعض العوائد لهذه الشركات المكبلة بتشابكات مالية (من ديون لها وديون عليها) وعمالة كبيرة لا تستطيع إدارات تلك الشركات طلب أي تعيين جديد لأي عامل فيها، مع تعدد الجهات الوصائية والمتدخّلة في عملها ضمن قوانين وقرارات مازالت حتى الآن أسيرة لها.

شريك ضعيف
وإلى جانب هذه الشركات العامة كانت بعض الشركات والتي أسست وفق القانون 21 لعام 1958 تتشارك في حصة القطاع العام في هذه السوق إلى جانب وجود آلاف الحرف والمنشآت الصغيرة والورش التي كانت تجهد بما تيسر لديها من قدرة وآلات بسيطة لإنتاج سلع مقبولة في السوق المحلية حيث ظل الأمر كذلك حتى بداية سنوات الانفتاح الفعلي؛ والذي بدأت بشائره مع بداية القرن الحالي ولتبدأ الحكومة تلمّس وضع وقدرة شركات الصناعية العامة على الاستمرار في ظل وجود بعض الشركات التي بدأت تتنافس في منتجاتها سعراً ومواصفةً وشكلاً ومضموناً مع بدء وزارة الصناعة آنذاك بوضع أول مشروع لإصلاح القطاع العام الصناعي المنهك بالمشاكل المذكورة آنفاً في محاولة لتقوية وتعزيز تنافسية وقدرة شركاته على الاستمرار بالعمل والإنتاج وإن كانت تلك المحاولات قد باءت بالفشل وظلّ موضوع إصلاح القطاع العام الصناعي هاجس كل الإدارات اللاحقة بعد تلمّس أوجاعه.
 
أولى سطور الاختناق
 لكن لم يكن ليصدر أي تشريع أو اتخاذ أي إجراء يحمي منتجات هذا القطاع ليأتي العام 2005 والذي سُجل فيه أول انكشاف اقتصادي للقطاع الصناعي الوطني سواء كان عاماً أم خاصاً مع دخول اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى حيّز التنفيذ الفعلي والتي نفذت سورية بنودها بحذافيرها ما أتاح بموجب هذه البنود دخول أي منتج في دولة عربية شرط أن يحقق 40% قيمة مضافة في أي دولة من دول الاتفاقية؛ الأمر الذي أول سطّر في كتاب الاختناق للقطاع الصناعي الوطني الذي لم يكن لديه القدرة على المجابهة أو المنافسة بمنتجاته سواء كان في السوق المحلية ولا حتى الخارجية وخاصة مع وجود شركات متقدمة من كافة الجوانب الفنية والتكنولوجية والإنتاجية والتسويقية في دول عربية أكبر من قدرات شركاتنا؛ ما أدى إلى وجود آلاف ومئات السلع في أسواقنا المحلية ذات السعر المنافس التي أقبل عليها المستهلكون وخاصة مع محدودية دخل الغالبية العظمى من هؤلاء.
 ولأن موضوع الإضرار بالإنتاج المحلي نتيجة هذه المنافسة غير العادلة كان موجوداً وقد تحسّسه الصناعيون قبل ذلك التاريخ، فكان أن بدأت الحكومة بدراسة إصدار تشريع ومنذ العام 2002 ليكتمل ويصدر في العام 2006 ، ولكن مع توقيع ودخول اتفاقية منطقة التجارة الحرة مع تركيا في العام 2007 ارتفعت أصوات الصناعيين وخاصة أصحاب المنشآت الصغيرة والمشاغل التي كان جزء منها لا بأس به مازال يعمل.. وهذه الأصوات أجمعت أن السوق المحلية قد شهدت إغراقاً في العديد من المنتجات والسلع ولكن هؤلاء الصناعيين لم يكن لديهم القدرة على إثبات أي حالة إغراق واحدة بموجب القانون لأي منتج والتي كان يحددها، ما جعل هذه المنشآت تتراجع وتضمحل قدراتها الإنتاجية شيئاً فشيئاً إلى أن شُلّت قبل أن تغلق أبوابها.
 
بلا إجراءات
 والقانون المذكور والذي عرّف الإغراق بـ: "بيع السلع المستوردة المماثلة للسلع المنتجة محلياً أو لها نفس مواصفاتها في سورية بسعر يقل عن سعر بيعها في السوق الوطنية للدولة المصدرة, أو بسعر يقل عن التكلفة الإجمالية" بحيث يسبب ضرراً أو يهدد بذلك أو يعوق بشكل ملحوظ إنتاج مثل هذه السلعة في سورية لم يكن بقدرة الصناعيين آنذاك إثبات هذه الحالات كما يقول متابعون بسبب اختلاف نوعية ومواصفات المنتجات الأجنبية، وبالتالي فإن تباين هذه المواصفات وبالتالي الأسعار جعل من تطبيق القانون صعباً جداً وخاصة مع ما حدده القانون من شروط والمتمثلة بوجود إغراق من خلال الاطلاع على الأسعار التصديرية وأسعار البيع في بلد المصدر وحجم المستوردات ووقوع ضرر مادي أو التهديد بحدوثه على المنتج الوطني يتمثل بتراجع كميات الإنتاج أو انخفاض المبيعات أو الأرباح أو زيادة المخزون أو ارتفاع نسبة البطالة ووجود علاقة سببية واضحة بين الإغراق والضرر الحاصل للإنتاج الوطني.‏
 
تلاعب معروف
 وسبب ذلك كما يرى هؤلاء أن هناك تلاعباً كان يحدث في تسعير المنتجات عند إدخالها إلى السوق السورية إلى جانب الدعم الذي كان يتلقاه المصدرون في بلدانهم عند قيامهم بالتصدير لأية كميات بالإضافة إلى الإجراءات المتخذة ضد المنتجات السورية عند دخولها إلى تلك البلدان وفرض الرسوم عليها وهي بالأساس غير قادرة على المنافسة في السوق المحلية؛ فكيف لها أن تنافس في تلك البلدان المصدرة إليها.
 
انكشاف ثان
 ولكن مع الانكشاف الاقتصادي الثاني للصناعات الوطنية والتي بدأت مع استهداف تلك المنشآت على المستوى الإجرائي والقانون من خلال العقوبات التي فُرضت على سورية مع بداية الأزمة والصعوبات التي واجهتها في استيراد المواد الأولية والآلات وقطع التبديل مع صعوبات تحويل الأموال من وإلى سورية وما ترافق ذلك من صعوبات في تصدير المنتجات إلى أن وصلت هذه المنشآت إلى مرحلة الاستهداف المباشر من قبل المجموعات الإرهابية المسلحة إما للمنشآت عبر تدميرها أو إحراقها وسلب منتجاتها والتضييق على أصحابها وعمالها وإدارييها والضغط عليهم وتهديهم؛ ما أدى إلى إغلاق مئات من المنشآت الصناعية التي قُدرت أضرارها حسب آخر إحصاءات وزارة الصناعة بأكثر من 500 مليار دولار..
 ولم يبق في الميدان الصناعي المحلي إلا القليل من شركات القطاع الخاص وما تبقى من شركات القطاع العام والتي تصل في مجملها إلى 35 شركة وهي التي ما زالت تعمل بقدرات متفاوتة وتزوّد السوق المحلية بمنتجاتها، هذا مع استمرار وجود منتجات مماثلة لمنتجات مستوردة ومهربة بشكل كبير وخاصة في المناطق الشمالية والشرقية من البلاد التي تتواجد فيها المجموعات الإرهابية المسلحة.
 
في عهد التمنيات
 وفيما كانت الحكومة قد اتخذت إجراءً في ضوء العقوبات التي فرضتها الحكومة التركية مؤخراً على سورية، وعملاً بمبدأ المعاملة بالمثل، تمثل بإيقاف العمل باتفاقية الشراكة المؤسسة لمنطقة تجارة حرة بين البلدين، وفرض رسم بنسبة 30% من القيمة على كل المواد والبضائع ذات المنشأ التركي المستوردة واستيفاء مبلغ 80 ليرة سورية عن كل ليتر مازوت من السيارات التركية المغادرة إلى تركيا إضافة إلى تطبيق رسم العبور على الشاحنات التركية المحملة أو الفارغة؛ لكن هذه القرارات كان يتمنى كثير من المنتجين أنها لو صدرت قبل ذلك لأنه لما كان قد وصلت حال الصناعة المحلية إلى ذلك الوضع الذي لم تكن لتحسد عليه.
 
لا بد من:
 والآن وفي ظل ما واجهته العديد من الشركات من عدم قدرة على تسويق منتجاتها في السوق المحلية فقد صدر أكثر من قرار حمائي للصناعة الوطنية ومنها الإسمنت وبعدها المياه رغم أنها غير مشمّلة بقانون حماية الإغراق إنما صدر بناء على توصية اللجنة الاقتصادية وأصدرته وزارة الاقتصاد؛ فإن الكثير من الصناعيين في قطاعات متعددة يتمنون صدور مثل هذه القرارات لتمكينهم من السوق المحلية والانفراد بها لكن هذا لا يعد في المسار الصحيح وخاصة في ظل تراجع الإنتاج الصناعي المحلي وعدم قدرة ما تبقى من منشآت على تلبية احتياجات السوق المحلية.. وهذا ما يتطلب إعادة النظر في وضع صناعتنا وإيجاد قوانين وتشريعات استثنائية تحمي هذه الصناعات وخاصة في مرحلة إعادة الإعمار وتمكينها أولاً من سد الاحتياجات المحلية وثانياً تعزيز قدرتها التنافسية لدخولها إلى الأسواق الخارجية في مرحلة لاحقة.