المبادرة تتخطى الروتين وتحقق أهدافها

المبادرة تتخطى الروتين وتحقق أهدافها

الأزمنة

الأحد، ٢٢ ديسمبر ٢٠١٣

زهير جبور
عندما تُتخذ المبادرات في الحياة المهنية والتربوية بعيداً عن التوجيه، وتأتي بتلقائية وحماسة وبأغراض متعددة هدفها تحسين الأداء، والابتكار، وترسيخ قيم الإنتاج، ورفع مثل السلوك، والإيمان بالعمل المطلوب، فلا بد أنها سوف تنجح وتتألق وتعطي، وفي الماضي كنا نفتقر فعلاً للمبادرات الجماعية والفردية، وكنا ننتظر التوجيه أو الأمر الإداري كي ننفذ بكراهية أحياناً ودون حب، ليأتي العمل مغلقاً. مصنعاً. يفتقد لأبسط عناصر الرغبة والاندفاع، على كل حال مثل هذا لم يزل متواجداً بين المسؤولين الذين يشعرون أن مواقعهم هي للامتياز وليس لتحمل المسؤولية، للكسب الآني واستغلال الموقع وليس لخلق روح الجماعة والتعاون، وبالمقابل ثمة مواطنون شرفاء يعملون من خلال حرصهم على الوطن وتحمّلهم بأمانة وصدق لمسؤولياتهم أياً كان نوعها، نجدهم بين العمال والفلاحين، وفي الدوائر، والمؤسسات، وغيرها، ومن يعمل في مؤسسة استهلاكية حين يتحلى بهذه الروح فلن يحتكر المادة الغذائية، ولن يقوم بفعل ما لا يرضي الضمير ولا يريح النفس ويجعلها قانعة بما تتصرف.
   
المبادرة كخطوة
ولا بد أن المبادرة ستشكل الخطوة الأولى صوب الهدف المنشود، وهي قابلة للفشل أو النجاح، وفي الحالين ينبغي أن تكون، فليس من المعيب أن تفشل مرة وأخرى لكن المعيب أن لا تكون موجودة وتستفيد من أخطائها، وتسعى لتصحيحها، حين التقيت السيدة أحلام رفاعي مديرة مدرسة الشهيد فارس معروف صبح وحدثتني عن أعمالهم في المدرسة، وحراكهم بين طلابها، والمبادرات الناجحة التي تحققت، لم أكن أظن أن ذلك قد وصل إلى حالات متطورة شملت تربية الأطفال، وإنماء الروح الوطنية لديهم، والاعتناء التام بمواهبهم المختلفة، وإتقان اللغة العربية، وتنمية موهبة الكتابة أو الشعر، وكذلك في المجالات الأخرى مثل الرياضة، والمسرح، والفن، والتفوق الدرسي، وتجاوز صعوبات التعليم الحديث المعتمد على الحاسوب في إعطاء الدروس، حسب المنهاج الذي طُبق مؤخراً برغم عدم توفر الظروف المادية والاجتماعية لتطبيقه كما يجب، وقالت مدرِّسة الرياضة إنها لا تقبل لمدرستها إلا التفوق، وبناءً عليه حصلت على الكثير من الكؤوس في الرياضة الفردية والجماعية، وتعتبر المدرسة المتفوقة فعلاً هي التي تتكيف في ظروفها، ويكون تفوقها متساوياً، فمن يعتني باللغة العربية لا بد أنه سيهتم بالرياضة والرياضيات واللغات الأجنبية ما دام العمل واحداً وهو يصب في مصلحة الطلاب وأسرهم، وبالتالي بالمجتمع على نطاق واسع، وهي المبادرة التي قرّرنا تنفيذها في المدرسة بالاتفاق فيما بيننا وبإشراف المديرة النشطة. الوطنية السيدة أحلام رفاعي.
   
الأعمال المنفذة
تقول السيدة أحلام مديرة المدرسة إنها أرادت منذ بداية العام أن تكون مدرستها مع طلابها متميزة في الأداء الدرسي والاجتماعي، وبدأت مع أسرة التعليم في هذا الاتجاه التربوي الذي اعتمد الطريقة التفاعلية مع الطلاب، وإغناء روح المسؤولية لديهم، وارتباطهم الطوعي بما تتطلبه واجباتهم، وهكذا تم اكتشاف مواهب أدبية، وأخرى رياضية، واجتماعية، وفنية، وطاقات حين استثمارها بشكلها الصحيح فسوف تؤدي دورها الاجتماعي، وتشير المديرة أنها حققت نتائج شعر بها ذوو الأطفال الذين عبّروا عن ذلك في اجتماعات الأولياء، خاصة وأن هذه العلاقة اتسمت بحميميتها، مما جعل الطلاب يندفعون إليها، وينقلون ثمارها الطيبة إلى أهلهم في البيوت، ومن الأعمال التي نُفذت على صعيد المحافظة ندوة (صرير أقلامنا أقوى من قعقعة سلاحهم) وما حصل أن كل طالب وطالبة عبّروا عن رأيهم كتابةً بما يدور في البلاد من أحداث مؤسفة، وجاءت أفكارهم عفوية صادقة، وكلماتهم معبرة عن طفولتهم وشعورهم وإحساسهم بالخطر الذي يداهمهم، وجرت مناقشات بين الحضور وبين الأطفال، دارت حول مستقبلهم والأماني التي يتطلعون إليها، وما أريد من هذا النشاط نفسياً هو الوصول إلى عمق التلاميذ ومعرفة النظرة التي يحملونها حول الأحداث، ومدى تأثرهم بها، وقلقهم، وهذا يساهم في تخفيف الصدمة والتقليل من مخاطرها النفسية عليهم.   

لقاءات مع المواهب الأدبية
قمنا بزيارة للمدرسة على مدار ثلاثة أيام متواصلة في وقت الصباح، كان طاقم الإدارة منشغلاً، وهم هنا يشكلون خلية نحل حقيقية، والمديرة منهمكة في أعمالها بين الصفوف واستقبال الأولياء والعناية بالطلاب الوافدين من المحافظات الساخنة، إلى أن تمكنّا أخيراً من اللقاء ببعض الذين شاركوا في النشاطات الفكرية وندوات (اللغة العربية هويتنا) تقول ساندي إبراهيم البالغة من العمر 11 سنة أتابع الأحداث المؤلمة التي تجري في بلدنا وأكتب عنها أيضاً ومما قلت:
(وردة حمراء رأيتها ذبلانة
فسمعت صوتاً، توجهت إليه
وإذ به الشهيد يقول لي
لا تخافي سنجعلها تنهض من جديد)
وكتبت غزل قبيلي البالغة من العمر 10 سنوات:
( عندما يكبر حجم المأساة تضيق مساحات اللغة وتموت الكلمات لكن من رحم الموت ولادتنا، من عمق المحنة نهضتنا)
أما لانا أسعد البالغة من العمر 11 سنة فقد كتبت:
(كقمر ينير اسوداد المساء
جميلة. حسناء.
وجهها تاريخ أغنية وعرس
تتربع عرش الكرامة
إنها سورية الشآم)
أما سودي رضا، ورنيم سعيد، وفتاة زريق، وغزل فوزي، وبتول خليل، ورغد قرة علي، فجميعهم من الموهوبين ومتفوقات في عدة مجالات مختلفة، وها هي سودي رضا تكتب الشعر وتعزف الموسيقا وتمارس تفوقها الرياضي إلى جانب الدراسة ونشاطها الاجتماعي الآخر، والملفت في الموضوع أن الأطفال جميعهم قد نضجوا قبل أوانهم، وهم يحافظون على طفولتهم لكن أفكارهم تعبِّر عن ما يحمله الكبار من رؤية، وحب، وقلق، وخوف، وفي قول لطفلة عما يحمله الدمار الإجرامي من خلفية بغيضة تريد النيل من تآخي الشعب السوري ووحدته، وحين أسمعتني ما كتبت اعتلتني الدهشة فعلاً:
(هنا في دمشق
تعانق مآذن الجامع الأموي
أجراس كنيسة حنانيا
والصلبان دير رؤيتي
ترسم صورة لتآلف وتآخي)
ألقت قصيدتها على منبر الإبداع الذي أقامته المدرسة بحضور حشد كبير من المواطنين ورجال الدين لمختلف الطوائف والكنائس.
   
تجربة مميزة
أثناء تواجدي في مكتب المديرة التقيت بأحد المقاتلين من الجيش العربي السوري .. حدثني عن بعض المعارك التي خاضوها في غوطة دمشق وعن بطولات حققوها هناك، وحين سألته عن سبب قدومه إلى المدرسة؟ أجاب: أنه قام بإيصال ابنته ورغب أن يقدم الشكر للإدارة، وقد وجد في حديثها الروح المعنوية العالية والثقة التي زرعت في قلبها فحضر ليقول لهم إنه سيغادر بنفس مطمئنة، فما يقومون به من تربية واتصال وفهم لعقول التلاميذ يكمل خط التربية متواصلاً مع الأسرة، وهو ما عبّرت زوجته أيضاً.
 ومن خلال زيارتي هذه تمكنت من سماع آراء بشكل مباشر أو غير مباشر عن الأسلوب التربوي الذي تنتهجه إدارة المدرسة وطاقمها المتفاهم والمنسجم والمتفق على زرع الروح الوطنية والأخلاقية والتفوقية بين الطلاب، وتحرص الإدارة على تواصلها الدائم مع أولياء الطلاب لوضعهم في صورة أي أمر طارئ يظهر في سلوك أولادهم.
تقدمت باسم مجلة الأزمنة بالشكر الجزيل للسيدة المديرة صاحبة الخبرة التربوية الرفيعة المعتمدة على أسس علمية ونفسية واجتماعية، ورغبت لو أن جميع مدارسنا تخطو صوب المبادرات الخلاقة التي تنتج أعمالاً هي موجودة في الواقع لكنها بحاجة لمن يبحث عنها ويوجهها ويقدمها بصورتها الصحيحة، وبناء سورية الغد يتطلب القيام بمثل هذه الأعمال، ورسم الطريق إلى مستقبل الجميع.