قصة الملايين والتبذير في الشركة العامة للبناء والتعمير

قصة الملايين والتبذير في الشركة العامة للبناء والتعمير

الأزمنة

الثلاثاء، ١٤ يونيو ٢٠١١


عمال شركة البناء والتعمير الذين تم تغريمهم ب20 مليون ليرة سورية لخصوا بكلمات معدودة معاناتهم حيث قالوا: الفساد ومكافحة الفساد عنوان عريض لطالما مرَّ من أمامنا في الصحف والإعلام لكننا لا نعيره اهتماماً لأن ما نصطدم به على أرض الواقع مختلف وهو شيء آخر؛ فالفساد ذلك الشبح المخيف نجده جاثماً على صدورنا ولا نملك القوة حتى لنزيحه قليلاً ليمكننا من التنفس ولنحافظ على حياتنا وليس لنقضي عليه بل فقط لنشير إليه ونطلب المساعدة ممّن مازال لديهم ذلك الإحساس بمتعة النزاهة وسعادتهم في نصرة الحق.
من هذا الشعاع المضيء في غرفة حالكة الظلام انطلقنا فهل سيلحظه أحد وهل سيساعدنا في جعل الغرفة بكاملها مليئة بالنور؟.
لاشك في أن الأمثلة كثيرة والملفات عديدة ومنها ما وصلنا من عمال شركة البناء الذين علقوا في شباك تقارير الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش التي تمخض عنها بعد نومها لسِت سنوات تقريراً بتغريم حوالي 50 عاملاً بمبلغ 20 مليون ل.س بنسب متفاوتة وهذا ما اعتبره العمال ظلماً وإجحافاً ومنهم من وجد في صيغة التقرير تواطؤاً ومشاركة في تشويه الحقيقة وتغيير الوقائع لصالح بعض المتنفذين وأصحاب القرار.. فما هي حقيقة هذه القضية التي نضعها بين أيدي الجهات المعنية مع التأكيد أن كل كلمة ترد في سياق الموضوع يقابلها وثيقة ممهورة بتواقيع وأختام لا تقبل الشك أو التأويل ؟!

أحداث ووقائع
المهندس مظهر اللحام وهو من العمال الذين تم تغريمهم وبنسبة كبيرة 35% من قيمة مبلغ التغريم وضع بين أيدينا جملة من الوقائع التي ترصد تسلسل أحداث هذه القضية من بدايتها حتى صدور قرار التغريم بكل تفاصيلها وحيثياتها؛ حيث أشار إلى أنه كان المهندس المسؤول عن مشروع إكساء المجمع الحكومي في حرستا وكان من المشاريع الأساسية في فرع دمشق وقد أبرم فيه عقدان للجهة الملزمة (محافظة ريف دمشق) أحدهما إكساء الكتل A B D بقيمة (399894892) والأخر إكساء الكتلة C بقيمة (3925000) لافتاً إلى أن الإدارة كانت ترى فيه صيداً ثميناً نظراً للكميات الكبيرة من أعمال الرخام وأعمال الحجر الطبيعي والسيراميك وغيرها من المواد التي حاولت الإدارة أن تستفيد من بعضها وبعد رفضه كرئيس للمشروع لذلك تم التواطؤ بين المتعهد المورد وأمين المستودع عن طريق إدخال مواد وهمية على قيود المشروع.

تساؤلات دون إجابات!
اللحام أكد أن إدارة الفرع فرضت على مجموعة من متعهدي توريد المواد والتركيب الذين يتعاملون بطرق غير مشروعة كما تبنت أسلوب الحصرية في التعهد حيث كانت التعهدات تنحصر في بعض المتعهدين وكان هناك من يُحاربْ أي متعهد يورد موادّ من خارج هذه الحزمة إذ لا تُصرَف مستحقاته وهناك أمثلة كثيرة مثل المتعهد (م. ج) الذي كانت المواد الموردة من قبله من أفضل المواد ومحزمة ومستَّفة إلا أن مستحقاته لم تُصرَف حتى هذا الوقت فلاذَ بالفرار وكذلك متعهد توريد الأسقف المستعارة م.ع لم تصرف مستحقاته رغم أنه تم تسليم المشروع لمحافظة ريف دمشق الجهة الملزمة.
وأكد اللحام أنه عندما عارض بعض العقود لهؤلاء المتعهدين السيئين والذين لم يلتزموا بتنفيذ الأعمال الموكلة إليهم كان هناك مماطلة كبيرة من إدارة الفرع تتجاوز الأشهر فقد رفض العقد رقم 29 لعام 2002 باسم م.م، والعقد رقم 33 لعام 2003 للمتعهد ب.ت الذي سحبت منه الأعمال ثم تم طي قرار سحب الأعمال والعقد رقم 15 لعام 2003 للمتعهد ب. د الذي سحبت منه الأعمال أيضاً ثم تم طي قرار سحب الأعمال.
وأشار اللحام إلى أنه عندما حاول استبدال ورشة من ورشات أحد المتعهدين المقربين من مدير الفرع تعرض للهجوم عليه بمكتبه وتعرض للقتل ويوجد كتاب موجه إلى قائد شرطة محافظة دمشق حول هذا الموضوع ولم يغفل أيضاً الإشارة إلى إهداء كميات من المواد إلى بعض المسؤولين حيث كان يبرر هذا النقص بإدخال المواد بشكل وهمي إلى المستودع وعندما تم كشف إحدى هذه الحالات وهي كمية 562 م2 رخام أرضيات قام أمين المستودع بتبرير النقص الذي لديه من خلال تنظيم إيصال بالكمية على المتعهد بحجة أنها أعيدت للتبديل كونها سيئة وذلك بتاريخ 22/5/2003.
ويضاف إلى ذلك أيضاً (والكلام للحام) التفاف أمين المستودع على لجان الاستلام الكمي والعددي وتزوير تواقيع أعضاء لجان الاستلام بحيث أصبح الرصيد في المستودع على مرور سنتين كبير ولكنه على الواقع غير موجود وكلما كانت الفرصة متاحة يتم تمرير كتاب إلى رئيس المشروع أو إلى إدارة الفرع بأن هناك هدراً في المواد (وحسب كلام اللحام وجد محضر استلام بكمية 1000 م2 رخام أرضيات غير موردة فعلاً وتم تزوير توقيع عضو لجنة على المحضر وتمرير ذلك بحسن نية على رئيس اللجنة).
وقال اللحام: لحرماني من إمكانية ضبط الأمور وحتى لا أكون قادراً على متابعة مباشرة للمشروع قامت إدارة الفرع بتسليمي مشروعين آخرين بنفس الوقت هما المبنى الإداري لمؤسسة الطيران العربية السورية في شارع الثورة وصيانة الخط الأول في مطار دمشق الدولي بتوزيع جغرافي متناثر في أنحاء دمشق ورغم ذلك حرصت على تدقيق الصرفيات من المستودع حيث تم تكليف مهندس للقيام بذلك بشكل دائم حيث لا يوقع رئيس المشروع الصرفية إلا بعد توقيع المهندس المسؤول مما أدى إلى انزعاج أمين المستودع الذي عمل على توجيه الكتب تحت عنوان (بأنه لا أحد يصرف له المواد) وبدأ بإثارة زوبعة الهدر لتبرير النقص الحاصل.
ولفت اللحام إلى أنه كل ما سبق حدث خلال عامين هما (2002-2003) ومن ثم تم نقله من المشروع في 16/1/2004 حيث استمرت زوبعة الهدر خلفه خلال عام 2004 وحصلت عدة مراسلات وطلب منه مدير الفرع مع رئيس دائرة التموين التوقيع على مذكرات التسليم لأن هناك كميات منفذة في فترة تواجده في المشروع وغير مصروفه وطلب رئيس المشروع من المهندس المسؤول عن الصرف بتدقيق الكميات وأنه في حال صحتها سيقوم بتوقيعها وتم ذلك في نهاية عام 2004 رغم أنه خارج المشروع وكل هذا مثبت بمراسلات رسمية موجودة لدى الفرع.

سيناريو الاتهام
من التهم التي وُجهت إلى رئيس المشروع المستقيل (مظهر اللحام) في بداية عام2006 مسؤوليته عن الهدر في مادة المشعات في نهاية عام 2006 ولكن الثبوتيات أثبتت براءته وخاصة الفاتورة التي نظمت من إحدى الورشات في المليحة رقم 001892والمؤرخة بتاريخ 13/2/2006 والتي تطالب شركة البناء بتسديد مبلغ 98900 لقاء توريد مشعات عدد 43. كما تم تغريم رئيس المشروع بمبلغين بسيطين أحدهما /2800/ ل.س والآخر /810/ ل.س لأعمال منفذة بعد استقالته من العمل وبإعمال لم يكن له دور بها ودون أن يسأل عنها. وغرم أيضاً بمبلغ 99000 ل.س ثم خفضوا المبلغ.
وفي بداية عام 2007 وجهت إلى رئيس المشروع تهمة التسبب بالهدر من قبل لجنة الخبرة المشكلة بموجب محضر الاجتماع المؤرخ في 7/2/2007 والمكلفة من قبل مفتشي الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش في حين بينت الوثائق أنه لا يوجد هدر وإنما يوجد سرقة وقد أثبت محضر اجتماع اللجنة المشكلة بالقرار456 ص.ف لتحديد نسبة الهدر في نهاية عام 2003 أنه لا يوجد هدر وأن الهدر ضمن النسب النظامية وإلى جانب ذلك هناك وثيقة تبين عدم صحة كتب أمين المستودع والتي يحاول من خلالها تضخيم مشكلة الهدر وتبرئة نفسه من الخلل المستودعي حيث ادعى أمين المستودع بتاريخ 7/7/2003 أنه في الساعة 11صباح وأثناء رفع الحجر الرحباني إلى الطابق الرابع من قبل عمال المتعهد أ.د وقعت سلة حجر بحدود 30 م2 مما أدى إلى تكسير محتويات السلة ولا يمكن الاستفادة منها وبالتدقيق من قبل رئيس المشروع تبين أن عدد الأمتار التي سقطت هي 3 أمتار فقط، ومن غرائب أمين المستودع إصراره على وجود الهدر حيث يشير الكتاب رقم 394 تاريخ 15/10/2002 الموجه إلى رئيس المشروع بخصوص هدر المواد في المشروع مثل السيراميك والرخام والرمل وغيرها من المواد المبعثرة في جميع أنحاء المشروع في حين أكدت رئاسة المشروع في ردها على الكتاب بالتأكيد على مسؤولية المستودع عن أية مواد لم يتم صرفها أصولاً والعمل على تفقد المواد بشكل دوري.
أما الكتاب رقم 393 تاريخ 15/10/2002 فله قصة تثير الاستغراب والدهشة حيث يقول أمين المستودع في كتابه إنه يتم إدخال مواد للمشروع من قبل المتعهدين بعد الدوام مما يؤدي إلى مشاكل معهم وعدم حصر الكميات بشكل دقيق وهنا تأتي إجابة رئاسة المشروع لتضع النقاط على الحروف حيث تطلب من أمين المستودع عدم قبول أي مادة ما لم تسلم للمستودع من قبل اللجنة المشكلة لهذا الغرض كاملة وبشكل أصولي.

أرقام تتراقص
كل من يرى بطاقات أمين المستودع وعليها الحك والشطب والتزوير يدرك تماماً حقيقة ما يجري في هذا الفرع حيث تتراقص الأرقام فيها بطريقة غريبة عجيبة هذا عدا عن الحك والشطب الذي تعرضت له وبشكل يطمس مدلولاتها الحقيقية ويثير الكثير من التساؤلات وإشارات الاستفهام حول مدى صحة هذه البطاقات.
ومن الأمور التي تثير الانتباه ذلك التناقض الواضح في أحد الكشوف حيث تم إصدار أمر الصرف قبل 15 يوماً من تاريخ الكشف رقم 1395/22/2/2003 أما أمر الصرف رقم (69) فكان بتاريخ 8/2/2003 فكيف تفسر الجهات المعنية ذلك؟.. أما تلك الأوراق البيضاء الممهورة بتوقيع أحد المتعهدين فلابد من التوقف عندها ووضعها في عهدة الجهات المعنية لأنها سابقة في أعمال التعهد والتوريد فما هي الأسباب التي تدفع بأحد المتعهدين لتوقيع سبعة أوراق بيضاء.
كما وُجد محضر استلام كمي وعددي وفني لمورد رخام ايطالي كرارة (م.ا. س) عقد رقم 3 لعام 2002 تم إعادته وشطبه من مدير الفرع وطلب من اللجنة إلغاء الحسم وبناء عليه تم إعادة تنظيم المحضر بدون حسم وإلى جانب ذلك تشير الحاشية الموجودة على كتاب وزير الإسكان الموجه إلى مدير عام الشركة العامة للبناء والتعمير بتاريخ 24/5/2004 إلى مسؤولية مدير فرع دمشق عن أي نقص يحصل حيث كتب المدير العام (أنتم المسؤولون عن أي خلل وعن أي نقص مادي للشركة).

خارج أوقات الدوام
التقرير الرقابي رقم 24/335/13/4م ت تاريخ 14/4/2011 الخاص بالتدقيق والتحقيق بموضوع الهدر الحاصل بمادتي الحجر الرحيباني والرخام لدى مشروع المجمع الحكومي بحرستا والذي أشار إلى 11 مخالفة في المشروع منها مخالفة معظم كميات الحجر الرحيباني والرخام الإيطالي الموردة للمشروع للشروط والمواصفات الفنية المطلوبة وعدم استلام المواد بالشكل الفني المطلوب من قبل لجان الاستلام ولجان الشراء خاصة وأن بعض الكميات كانت تأتي إلى المشروع خارج أوقات الدوام الرسمي والتخزين العشوائي للحجر والرخام والعشوائية في نقل وتوزيع واستخدام مادتي الحجر والرخام وعدم التقيد بشروط ومواصفات المواد وتركيبها مما استدعى فك بعضها واستدراك الخلل وإعادة التركيب وهذا ما ساهم في رفع نسبة الهدر إلى جانب عدم قيام الدائرة الفنية في الفرع بالمهام المناطة بها بخصوص جودة المواد وتركيبها وعدم ترحيل بعض كميات الحجر والرخام المرفوضة خارج المشروع وإعادتها إلى مصدرها وقلة نسبة التغريم والحجر مقارنة مع تدني المواصفات، واقتصر الحسم على مبلغ 470000 ل.س وتنفيذ جزء من الحجر الرحيباني بمساحة 149/م2 تحت السيراميك في الطابق 11 وتدني مستوى ورشات التركيب الذي ساهم في زيادة الهدر وتجاوز نسبة الهدر للحد المسموح به والبالغ 2% كحد أعلى وترحيل كمية  350,8 طناً من الحجر الرحيباني وكمية 29 طناً من الرخام الإيطالي المهدور إلى مستودعات السخنة وجلب قصاصة حجر إلى المشروع والتعاقد مع متعهد من أجل قص وتشذيب الحجر يعتبر دليلاً ساطعاًَ على سوء نوعية الحجر المورد إلى المشروع ومعالجة حوالي30% من الكمية الموردة وعدم قيام اللجنة المكلفة بدراسة الهدر الحاصل في مادتي الحجر الرحيباني والرخام الإيطالي بمهامها المطلوبة بسبب ضيق الوقت المتاح لها مما جعلها تقترح تأجيل المهمة لغاية انتهاء المشروع ومظاهر الهدر من قبل المعنيين بالمشروع والفرع في حينه رغم إبلاغهم بذلك من قبل أمين المستودع.
وخلص التقرير إلى تحميل50 عاملاً بالمشروع قيمة الضرر الذي لحق بالمال العام جراء الهدر الحاصل في مادتي الحجر والرخام وسوء تنفيذ الواجهات والإكساء الحجري وأعمال الرخام يضاف إليها 15% حيث يصبح المبلغ (20مليون ليرة سورية) أما مدير الفرع فقد تم استثناؤه وتغريمه بمبلغ 813,286 ل.س وبالنسبة لأمين المستودع فقد تمت معاقبته بعقوبة الحسم من الأجر بنسبة 2% لمدة ثلاثة أشهر عن وجود حك وشطب وأخطاء في عمليات الجمع والطرح الذي سببه ضغط العمل.

من أجل الحقيقة
إشارات استفهام عديدة نضعها هنا بين أيدي الجهات المعنية لعلها تكون قادرة على إيجاد إجابات شافية لها وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح وبشكل يحفظ ماء وجه الحقيقة وسمعة القطاع العام.
بشير فرزان