ماراثون التدفئة..والمركز الأول

ماراثون التدفئة..والمركز الأول "غير متوقع"

الأزمنة

الجمعة، ١٢ فبراير ٢٠١٦

الأزمنة – مجد سليم عبيسي
قبل أن نستعرض المتسابقين معنا على مركز الصدارة في المنزل السوري البارد، لنقف معاً وقفة متأملة على طول خط السباق الشتوي الذي يمتد ستة أشهر صعبة المراس، ولنركز على الطريق الذي يخترق منازلنا وعظامنا، ونستشعر برودته تسري في الأعصاب حتى نقيّم بموضوعية أداء المتسابقين.
تم بناء هذا السباق على أسس أولويات المواطن، وكيف تغيرت إيديولوجيات السباق وتزعزعت معتقدات الجمهور وثقتهم بأبطالهم، استقراءات من داخل منازل باردة وأخرى من محاولات دافئة، ومركز الصدارة بقي متنازعاً عليه إلى أن جاءت نتيجة غير متوقعة من شريحة مجتمعية ليست بالقليلة.. أو باتت ليست بالقليلة اليوم، قلبت ميزان المراهنات ولكن لم يكسب الرهان أحد، بل قللت من الخسائر ليس إلا.
 
بداية الطريق:
 
لم تكن طريق السباق المعبدة الباردة فيما مضى ذات شعبية ومطبات وحماسة كما هي اليوم، وأقول "ما مضى" أي قبل خمس سنوات ليس أبعد. والحقيقة أن ماراثون التدفئة لم يكن ماراثوناً حقاً بل كان طريقاً للتنزه الشتوي، فيه متسابقان أساسيان يبدأان معاً وينتهيان معاً وكل منهما له جانبه الخاص من الطريق.. وهما المازوت والحطب.
المتسابق "المازوت" كان يأخذ طريق المدن في الأغلب لسهولة ويسر انسيابه فيه ولانسجام حركاته ومعداته مع تموجات الأرض، بينما الحطب فقد اتخذ منذ القدم الطريق الريفي والجبلي والذي اتفق معه بالمجمل وكانت طبعات نعاله متينة وثابتة على ذاك الطريق وله الغلبة فيه من جميع النواحي.
كان الاثنان يسيران معاً منذ بداية الطريق الموسمي ويتحادثان ويتسامران ويضحكان على المتسابقين الدخلاء كالكهرباء والغاز ويخرجونهما من الطريق بعد أن يقنعونهما أنه ليس بسباق ألبتة.
كانا سعيدين؛ وكذلك كان جمهور المواطنين الراضين بتتويج الاثنين معاً وبمنح جوائز الترضية لكل الدخلاء على الخط الثلجي، حتى كانت العاصفة.
 
بداية رهانات السباق:
 
بدأ الرهان والمقامرة على السباق بالتدريج منذ بداية العاصفة. حيث نصبت حفنة وجاهتها كمديرين للسباق يراهنون على أحد الكبيرين بإقصاء الآخر. وفعلياً لم يكونوا يراهنون فقط.. بل كانوا يدسون المنوم في شاي المازوت في غفلة عن الجمهور.. وهنا بدأت اللعبة!!
حين بدأ النعاس يخالج مادة المازوت بداية طريق السباق الشتوي ارتفعت حرارته من 7.5 ليرات سورية لليتر الواحد إلى 9 إلى 15 إلى 20 ليرة إلى 140 ليرة سورية اليوم بحرارة تحرق كل من يحاول أن يوقظة أو أن يقتبس من دفئه!!
جمهور الدخل المحدود احترق مراراً وخسر ما فيه النصيب قبل أن يدرك قواعد اللعبة؛ وقبل أن يتوجه جناح كبير منه بالرهان على منافس آخر؛ وكان الأقرب والأوجه "الحطب" ومنهم من توجه للبدائل الدخيلة من كهرباء وغاز التين لم يكن لهما يوماً مداس قدم يذكر في أي مضمار عريض.
ولكن معظم الجمهور الأصيل للمازوت لم يرض التخلي عن تشجيع بطله العريق بسهولة، ولكن إلى أي مرام يكون الصبر على نار تحرقهم أكثر من أن تدفئهم ستتفلت عندها مقابض المراهنين؟!
سيتجمدون من البرد في منتصف الطريق.. "هذا حال الصامدين قبل أن يترددوا بين آمال معلقة بمتسابق آخر يذهب بعزوة المازوت.. وأمام واقع كهذا يلتهم الدخل المحدود سينقسم المعجبون بين حطب وكهرباء ولربما "إحراق القمامة والأقمشة والكرتون" كما لاحظنا مؤخراً!!
 
تحطيم الأبطال:
 
حين تنحت مادة المازوت عن حلم التصدر في منزل المواطن خلال الزمهرير الشتوي، برز الحطب والكهرباء والغاز كأندية بديلة يمكن للمشجعين أن يتعصبوا لأي منها شاؤوا. وكان أن انضم معظم مشجعي المازوت إلى أندية المدن البديلة ليشجعوا بطلهم الجديد "الكهرباء"..
الكهرباء لم تكن بطلاً بارزاً يوماً، ولكن الأزمة جعلت من الكثيرين أبطالاً!!
جمهور الكهرباء كان فيما مضى من عليّة القوم الذين يقدرون على شراء قمصان تشجيعه وتحمّل نفقات أصبغة الوجه الخاصة به، ولكن كل من يتابع ماراثون الشتاء يجب أن يجد لنفسه بطلاً وإلا فسيتجمد على قارعة الطرق. فما كان من جمهور المازوت إلا أن انحاز للكهرباء واضطر في البداية إلى شراء الزي الخاص به وتحمل مغبة غلاء معدات التشجيع والأصبغة..
ولكن حين بدأ الجمهور بالتلاعب بالعضوية والانتساب بالمجان والنفاق بحب البطل والغش بالأصبغة، تنبهت إدارات السباق إلى ذلك فأقصت المتسابق بقوة مفرطة، لربما أقصته بشكل طبيعي ولم يكن السبب ألبتة تلاعب الجمهور؟! ولكن هذا ما كان..
هي لم تقتله نهائياً ولكنها أصابته بعاهة لئيمة ليزحف على يد واحدة، "من سيراهن على زاحف بيد واحد في المضمار بعد؟!" هذا ما قاله جمهور المواطنة.
 
 
الصدارة للغاز:
 
مازوت مدلل وصعب المنال، وكهرباء عزيزة يشتاق لها المحب، فكان الاتجاه نحو الغاز..
نعم، الغاز متسابق دافئ نوعاً ما، يناسب جليد المدن. صحيح أنه ضعيف بعض الشيء؛ ولكنه أدخل السباق عنوة وبات يجري جيداً؛ فهو متوافر ويلوّح لك كلما هللت له للمضي قدماً.
الغاز يتقدم نحو الربع الأخير من المضمار رغم رائحته الكريهة التي أزخمت أنوف المشجعين، ورغم هزالته التي وصلت به من 12 إلى 8 كغ فقط، ورغم غلاء أدواته الرياضية التي وصلت بالمدفأة الخاصة به إلى 40 - 60 ألف ليرة سورية للماركات المحترمة والمحكمة، ورغم خرطوشة المدفأة والتي صارت بين 1900 و2500 ليرة سورية وفقاً لمكان الشراء أن كان منفذاً حكومياً أم سيارة جوالة أم بقالاً.
الغاز إذاً يعلمه مديرو السباق أنه ليس بالمتسابق المر الذي لا يشق له غبار هذا الهزيل الثقيل ذو الرائحة والدفء المحدود، لكنه مقبول التكاليف ومشجع أكثر من المازوت الذي بات يكلف شهرياً أكثر من الغاز بضعفين أو ثلاث، لذا دعوه وشأنه.. وليصل إلى قلب من يصل إليه.
 
عودة إلى البطل "الحطب":
 
سيئات البطل البديل "الغاز" جعلت منه بطلاً احتياطياً لمن يرغب. ولكن الكمال والاحتفال ببطل ماراثون الشتاء الذي يستحق اللقب "يعتقد البعض" أنها لصاحب المقومات الكاملة العملاق القديم الآخر "الحطب" ذاك الكائن الريفي الجبلي الذي دخل المدن من أعرض الطرقات.
عندما غابت مدافئ المازوت عن 70% من بيوت السوريين المدنيين المشجعين الأصيلين لدفئه كل عام، وبعد أن أصبح الحصول على الوقود مهمة شاقة في العديد من المناطق، كان الحطب هو التالي.
واقع فرض نفسه بقوة على العائلات السورية التي حولت الرهانات إلى الحطب والتحطيب لمواجهة طريق الشتاء الطويل.
يقول أحد بائعي بطاقات الرهان على السباق الشتوي:
كنا فيما مضى قبل انطلاق صافرة السباق ننظم عمليات الازدحام على محطات الوقود، أما اليوم فيمكنني القول: إن طوابير الرهانات انتقلت بالأغلبية العظمى إلى بائعي الحطب، الذين ينتشرون بكثافة على أطراف البلدات وداخل المدن.
وأضاف: إن الحطب أصبح بلا شك الحل الأمثل للفوز بالدفء، كما أن محال بيع مدافئ المازوت ومستلزماتها، تحولت بالأغلبية العظمى إلى بيع الحطب المقطّع بالإضافة إلى بيع مدافئه.
ولفت إلى أن ٨٠% من العائلات استبدلت مدفأة المازوت بالحطب، والبعض حوّل مدافئ المازوت نفسها إلى الحطب، كما أن ثمن المدافئ ارتفع خلال هذا العام أيضاً مثل كل عام، ولكن تبقى أرخص من المازوت على كل حال، إذ تباع مدافئ الحطب حالياً بأسعار متفاوته تمكن الجميع من الانضمام إلى ناديها تتراوح بين 2500 ليرة سورية لمدفأة الصاج وحتى 30 ألف ليرة لمدفأة الفونت.
وبحسب أحد المشجعين الجدد فإن تكلفة التدفئة بالحطب، أقل بكثير من التدفئة بالمازوت، موضحاً أن حاجة الأسرة السورية من الحطب خلال فصل الشتاء تتراوح بين (١-٢) طن، أي ما يعادل 100 ألف ليرة سورية خلال رحلة الماراثون كلها، أما حاجتها من المازوت -في حال توافره- ٢٠٠٠ ليرة سورية يومياً على أقل تقدير، أي ما يعادل 360 ألف ليرة سورية خلال رحلة الماراثون التي تستمر ستة أشهر. وهذا أفضل الموجود لتدفئة أسرة كاملة دفئاً محترماً طوال الموسم.
 
مفاجأة البطل الجديد:
 
بالقيام بحسبة صغيرة للمواطن المشجع لتدفئة الحطب بحكم أنها شارفت على الدخول لخط النهاية والتربع في منزل المواطن السوري بإجماع أكبر من تدفئة الغاز، يمكننا أن نلاحظ أن تكلفة المتسابقين الشهرية يمكن أن تصل بين 15 - 20 ألف ليرة سورية، وهذا مبلغ يساوي تقريباً أكثر من نصف دخل المواطن السوري الشهري.. والذي يبقَى من دخله لا يكفيه قوت يومه!!
وإن كان يدفع إيجاراً بسيطاً فقد أفلس بالمطلق!.
هذه الحسبة جعلتنا ندخل عميقاً بين حضور الماراثون من محدودي الدخل، لنفاجأ أن معظمهم متفرجون فقط، ولم يعودوا من مراهني السباقات، كما لم يعودوا من مشجعي أي من أبطال السباق الأساسيين أو الاحتياطيين.
لأنه كما أجمعوا أن هذا السباق الذي لا بد منه كل عام يضعك أمام موتين:
الأول: الموت برداً إن لم تشجع حصراً أحد أبطاله، واعتمدت سياسة النأي بالنفس والمراقبة وضغط الإعجابات فقط..
وثانياً: الموت جوعاً إن شجعت أحدهم. لأنك ستدفع ثلث دخلك الذي هو بالأساس لا يكفي حتى ثلث الشهر..
والحل كان بديلاً إبداعياً كما عودنا الشعب السوري المبدع والصامد دوماً.. بتشجيع متسابق جديد دخيل قفز فوق رقاب جميع العدائين وتربع في الصدارة.. ألا وهو "البطانية".
يقول علي وحامد وغصون وهالة ومعظم من قابلتهم في كواليس السباق.. نشجع البطانية والحرام الصوفي..
كل ما عليك فعله عند عودتك إلى المنزل أن تضع على كتفيك بطانية صوفية؛ ويمكنك بعدها أن تمارس نشاطاتك المعتادة من مشاهدة التلفاز وشرب الشاي والمتة.. وأن تهزأ ببرد الشتاء وتتبختر بقوة على طرقات المنخفضات، ولا ضير من المساعدات كاللفحة الصوفية للأنف والرقبة؛ وقبعة الطرطور لتدفئ الجبهة والصلعة والأذنين.. ودمتم دافئين.