اسمها ارتبط بحلب.. سوق صابون الغار الحلبي ..لم تسلم من الفساد والغش أيضاً..!!

اسمها ارتبط بحلب.. سوق صابون الغار الحلبي ..لم تسلم من الفساد والغش أيضاً..!!

الأزمنة

الاثنين، ١ فبراير ٢٠١٦

الأزمنة| حلب - مصطفى رستم
بنفس عميق يشتم "ابو أحمد"  قطعة من صابون الغار أخذها من أحد الرفوف الموضوعة في دكانه الصغير المتوضع في سوق شعبي  من الاسواق، الحديث بعد نزوحه من سوق (المدينة القديمة)، يثبت نظارته جيداً ويتأمل قطعة الصابون الأخضر كخضار ورق الغار الشامخ فوق شجرة، يتناول قطعة أخرى من ذات الرف، وبحركة يخبرها جيدا أصحاب المهنة  (المعلمون، وشيوخ الكار) تحتك القطعتان ببعضهما  فتنبعث منهما رائحة  يشتمها كل  من كان جالسا، بل إن هذه الرائحة الزكية لابد أن تصل لأنوف كل من يدخل لهذا الدكان عنوة ومن دون استئذان.
"أبو أحمد" الخمسيني من العمر وهو صاحب حرفة (عتيق) في صناعة الصابون يرسم ابتسامة نصر تشبه  أكاليل الغار التي تتوج فوق رؤوس الابطال المنتصرين في المعارك، وبلهجته الحلبية وبلغة صارمة ممزوجة بفرحة عارمة  لا تنقصها الثقة العالية يصرخ قائلاً: (طبخة الصابون  أصلية مية بالمية ،، وعلى مسؤوليتي وهيّ السوق وأنا أبو أحمد )، كلامه في السوق يعتبر بمثابة (طابو أخضر) فيما يخص الصابون وخاصة جودته، فهو يفرق بين الصابون (الأصلي وبين المغشوش) يقول:
لم يعد سوق الصابون كما كان سابقاً هذا ما يعبر عنه كل حرفي والصناعي وأصحاب الكار، وحتى تجار صابون الغار الحلبي  تركوا المهنة وهاجروا ونسبة قليلة منهم بقيت في مدينة حلب، فندرة الصابون بالأسواق وان وجدت تعود لما تبقى في  المستودعات، والإنتاج تضاءل ويقتصر على  ورشات العمل (المصابن) التي تناقصت وتوضعت في أماكن مختلفة، وأغلب المصابن والورش  دمرت بفعل الحرب.
تضاؤل الانتاج كان له لها التأثير الكبير في  فقدان صابون الغار الحلبي الأصلي، وقلة انتاج الجيد منه  اضافة  لارتفاع أسعار المواد الأولية التي تستعمل وتدخل في صناعة الصابون ومنها الطبخة والتي تتألف من (زيت الزيتون، والغار وغيرهما)  والتي أثرت أيضا في ارتفاع اسعار الصابون ، ونما بالظل (مصابن) خفية تعمل على انتاج صابون غار بجودة متدنية.
غياب (المصابن):
فقط هم من يتألمون لما أل إليه سوق الصابون الحلبي (هم) اصحاب الكار الذين يصنعون قطع الصابون بأيد ماهرة ومتمرسة بعد أن تناقلوها من الاجداد وهم وحدهم يعلمون مدى ما اصاب سوق الصابون من عطب بعد أن افتخرت مدينة  حلب عبر السنين بصناعتها للصابون، ورغم كل ما تقاسيه حلب من ألام وأوجاع تركت آثارها على تجارتها وصناعتها، إلا ان ورشات الحرفة ومعامل الصابون لم تعد كما كانت، ومع ذلك  فإن الحياة تنبض برائحة الصابون الحلبي رغم ندرة إنتاجه حيث  يصل جزء كبير منه من خارج المدينة عدا  الصابون المنتشر في الأسواق والمخزن، يقول "محمود وحيد" احد الحرفيين في مهنة صناعة الصابون:
" الحرب دمرت ما دمرته من أسواق ومحال و مصابن، لكن سوق الصابون مازال ينبض بالحياة من خلال ما تنتجه المصابن، وأغلبها يتركز بريف حلب وأشهرها مدينة "عفرين" لتوافر مادة زيت الزيتون في تلك المدينة الغنية بأشجار الزيتون، والمعروفة بإنتاجها الضخم لمادة زيت الزيتون والذي يعتبر من المواد الأساسية التي  تدخل في صناعة الصابون مع ضعف كبير بالإنتاج".
(الطبخات) والأصناف:
اعتاد زوار حلب أثناء زيارتهم للمدينة على اقتناء ألواح صابون الغار والزعتر ،لتعبق فيما مضى أسواق حلب القديمة بروائح التوابل والصابون والزعتر هي روائح زكية لا حدود لها حتى إن رائحة الصابون الحلبي تعدّت سوقه القديم بفضل مهارة الحرفي وانتشرت رائحته في الاسواق العربية وحتى الأوروبية عبر تصدير كميات كبيرة منها للأسواق الخارجية  وهنا يفصل "محمود وحيد" والذي امتهن حرفة الصابون وفضل البقاء في مدينته ويعمل في الصابون وبشكل محدود على أن يسافر، يفصل ما بين (أنواع الصابون) ومستويات جودته  وبين (الغش في الصابون)  فلصابون الغار أنواع وأصناف، ويختلف كل صنف عن الآخر بما يسمى (الطبخات)  وهنا  تتنوع جودة المنتج من ألواح الصابون بعد الإنتاج.
ويرى "وحيد" أن  المستهلك  لا يمتلك المعرفة الجيدة والكافية للتفريق بين الأصناف الجيدة من الاصناف الأخرى التي تتراوح   بين الوسط أو الاقل جودة، وهنا يقول: كثير من الناس لا يستطيعون التمييز بين الأصناف ولا يمتلكون الخبرة في هذا المجال  فعدد من (الطبخات) أو الكميات التي يتم تداولها بالأسواق تباع على أنها صابون غار حلبي جيد وخاصة للاستحمام  إلا أنه توجد أصناف أخرى من الصابون والأقل جودة يباع  لغسيل اليدين وللتنظيف فقط وهذه الأصناف المتردية تؤثر على شعر الرأس وفروته  في حال استخدامها بسبب زيادة في نسب المواد الكيميائية (الكوستيك)، وما يحدث حاليا بسبب غياب رقابة الضمير ،والفوضى الحاصلة في الأسواق والمصابن، فالمصابن أخذت تستبدل مادة زيت المطراف بمادة المطراف فالمطراف له تأثير سلبي على فروة الرأس حيث يصيب الفروة  بـ(القمل ) لذا لابد من التأكّد بأن هذه الألواح، والقطع من الصابون صالحة للاستحمام  في الحمامات لأن أكثر المستهلكين الذين يطلبون صنف الغار يطلبونه بغية الاستحمام لكن الصابون الاقل جودة لا تصل للاستحمام سوى لتنظيف الجسم ولا تصلح  لفروة  الرأس".
كشف الغش:
يحضّ أصحاب الكار والحرفيون والعاملون في الصابون ممن يملكون الضمير والنزاهة في العمل، على ضرورة أن يفرق المستهلك  بين أنواع وأصناف الصابون فالمشتري عليه أن يكشف بنفسه  الغش، يدفعهم بذلك حرصهم للحفاظ على الشهرة التي وصل إليها الصابون الحلبي، وعدم التفريط بسمعة الصناعة والصناعيين، ورغبة منهم لكشف اولئك الغشاشين والمتلاعبين بالصناعة، أو البائعين الذين يبيعون الصابون المغشوش على أنه صابون حلبي ممتاز.
وهنا يفرق "محمود" الحرفي في مهنة الصابون بين ثلاثة أنواع من الصابون الحلبي (الجيد والجيد جداً والممتاز) ، فالصابون ذو النوع الممتاز يصبغ باللون الأخضر ويطغى عليه بشكل كبير، فيما تميل ألواح الصابون الجيد جداً إلى اللون البني الفاتح (البيج) ،وعن الصابون الجيد وهو الترتيب الاخير بتصنيف الجودة يميل لونه إلى اللون الأبيض.
وفيما يخص (طبخات) صابون الغار المغشوش لابد من الحذر من الصابون (المالح) والذي تتشكل فوقه طبقة مالحة كون هذا النوع من الألواح تكون نسبة المواد الكيماوية كبيرة وهي مادة (الكوستيك) ،وهذه الألواح لا تتناسب على الاطلاق مع حمام الرأس.
ويضيف: لقد ارتبطت سمعة الصابون الحلبي بأسماء عائلات حلبية تناقلت المهنة والصناعة وتوارثتها من الاجداد عبر فترات زمنية وعهود بعيدة تعود  لمئات السنين لتتحول إلى  ماركات مشهورة ومن ابرزها هي (فنصة، زنابيلي، الحلاق، قداح ..وغيرها ) حيث تعتمد في صناعة الصابون الغار الحلبي على زيت "العرجون " ويضاف إليها  محسنات (الغار)  ومن بعدها يتم تنشيفه ليكون جاهزاً للتسويق و الصابون الغار مصنف من أجود أصناف الصابون في العالم.
وعن طريقة معرفة الصابون الغار الصالح للاستخدام على الرأس من الصابون الذي يستخدم لاستعمال اليدين يقول: إنه إذا شققنا لوح الصابون إلى نصفين وأخذنا نشم رائحته  فإن كانت هذه الرائحة حادة وفيها حدودية، تدل تلك الرائحة على زيادة في مادة (الكوستيك) التي لا تريح الأنف فيجب أن تكون هذه المادة بنسبة 5 بالمئة  فيكون لوح الصابون غير صالح لغسيل الرأس بل يستخدم لغسيل اليدين أما إذا كانت الرائحة أخف حدودية فتستخدم لغسيل الرأس هذا وأضاف أنه توجد طريقة أخرى عن طريق المذاق فإذا قسمنا لوح الصابون إلى شقين وقمنا بتذوقه وكان حلو المذاق فهو صالح للاستخدام وغسيل الرأس.
مراحل صناعة الصابون:
يمكن اختصار عمليات تصنيع الصابون بجملة من المراحل  تبدأ بوضع زيت (لمطراف) أو زيت  (البيرين) ، وهي المادة الأساسية التي تدخل  في صناعة صابون الغار، وتوضع ضمن  ( قدر كبير)  ويوقد  تحت القدر النار، ويتم غلي زيت (البيرين)  لتصل لدرجة  غليان محددة، وبعدها يتم وضع الزيت على مدار يومين وتكون جاهزة للسكب  وبعد ساعات يتم تحريكه ويصب بعدها بساعات للتبريد، وتسمى هذه الساعات  ساعات التجمد، وبعد عمليات التجميد  يتم تقطيعها، ونشرها وتظل لمدة ستة أشهر في الهواء الطبيعي داخل أماكن مغلقة  يسمى ـ الهنغارـ  أوالمصبنة ،في حال  دخول الصيف في فصلي حزيران أو تموز وبهذه المرحلة تكون ألواح  الصابون المقطعة جاهزة  للدخول إلى الأسواق والتداول " في حين يطبخ الصابون بكميات في قدور كبيرة، قبل أن ينقل ليسطّح ويقسم ويضاف إليه نبات الغار وهو متوافر في منطقة السهل السوري وبشكل خاص في منطقة اللاذقية، ونقلاً عن أصحاب الخبرة تحدثوا لنا أنه (الصابون الغار)  يفضل ألا يتم  استعماله مباشرة بعد صناعته، وكلما جف أكثر زادت صلابته وجودته وفائدته لما يحتويه على مادة الغار.

لأخذ العلم:
ـ عرف صابون الغار في سورية وبالتحديد في مدينة حلب، إذ إنّها المدينة الأولى التي تمت صناعة صابون الغار فيها ويصنع من شجرة اسمها الغار، ويتكون صابون الغار من مجموعة من الزيوت وأهمها زيت الزيتون بالإضافة إلى زيت الحبة السوداء وزيت النخيل وزيت جوز الهند بذور القطن، حيث إنّ صابون الغار لا يحتوي على أي من المواد العطرية أو الصبغات المصنعة، ولا يوجد فيه أي من المواد الكيميائية أو الصناعية التي تؤذي البشرة والشعر.
ـ  تتحدث سجلات وإحصائيات أنه بلغ حجم تصدير صابون الغار الحلبي قبل الحرب اي قبل خمس سنوات  عشرات الأطنان سنوياً، ويبلغ الانتاج اليومي ألف  كيلو غرام يومياً.
عدد المنشأت المرخصة في مدينة حلب والريف قبل خمس سنوات كان  ما يقارب 200 منشأة، ويتجاوز عدد العاملين فيها ما يقارب 700 عامل اغلبهم توارثوا المهنة عن آبائهم وأجدادهم وأتقنوا هذه الحرفة  بشكل جيد وواكبوا كل التطورات الحديثة التي دخلت على تلك الصناعة، وأبدعوا فيها ، وابتعادهم عن الغش في تركيبة "الطبخات" العامل الرئيسي في شهرة صابون الغار في المدينة.
ـ  ويشير أحد المتابعين لصناعة الصابون والذي يعمل في هذه المهنة أن إحدى المصابن يعود عمرها تقريباً  إلى 500 سنة والتي بنيت في عصر (خاير بيك والي حلب المملوكي)  قبيل مجيء العثمانيين، وفي حلب مصابن مشهورة لعائلات ذكرنها سابقاً ارتبطت بها وأكسبتها الشهرة.