مقومات الحياة وترسيخ الارتقاء والحضارة

مقومات الحياة وترسيخ الارتقاء والحضارة

الأزمنة

السبت، ٢٦ ديسمبر ٢٠١٥

زهير جبور
تتردد مفردة أقليات, وهي ترمز إلى وجود الجماعة الدينية في المجتمع . وبرغم أن تلك التسمية لا تتفق تماماً مع الحالة السورية. وأجدها لا تعبر عنها. لكن الأحداث التي عاشتها البلاد في السنوات الخمس الماضية. ووسائل الإعلام المعادية، والأفكار التي تديرها المؤامرة  على سورية, تركز عليها عملاً على ترسيخها ونشرها. وصولاً إلى التفرقة الطائفية المطلوبة خدمة لأهداف الضلال الذي تكالبت القوى المعادية لنشره مستهدفة الجسد السوري الذي يرجع لآلاف السنين موحداً. ولا حاجة لإبراز ذلك. وجميع الدلائل على الأرض تؤكد أنه الشعب الذي لم يفرق يوماً بين جماعة وأخرى, المواطنة جمعتهم ولم تميز بينهم. والكثير من عاداتهم وتقاليدهم واحدة في المناسبات الدينية. وعيد ميلاد السيد المسيح بهجة يتشارك بها الجميع, ويقدمون التهاني لبعضهم. وكذلك الأعياد الأخرى. وقبل الأزمة اللعينة كانت اللاذقية بمن فيها دون استثناء تحضر للعيد  والاحتفال به . وعليه فإن مسألة الاندماج الديني كانت وما زالت متعلقة بالوجود نفسه. وأن الناس على الأرض احتاجوا للتجمعات البشرية. وقد اتفقوا على وحدة الأصل والتعاون ومقومات الحياة والسعي لإقامة التمدن والارتقاء . وقد حملت الفلسفة مفاهيم تحليلية تشير إلى أن الإنسان السوري ينبغي أن يكون متحضراً ولا تكتمل معيشته إلا بمشاركة الآخرين الذي يبني معهم كيانه في وسط اجتماعي يتشابك به الأنا والأنا الآخر والفهم والثقافة.
إجمالاً هو ما عرف عن الإنسان السوري في ماضيه وحاضره , أمانيه وأحلامه . وعلى هذا كون حضارة يشهد لها. وسوريا هي البلد الثاني لكل إنسان عرفها وعاشها  وفهم معانيها ورموزها وطبيعة شعبها. الذي جاءت يد البطش والجريمة لتنال منه وتدميه  وتسقطه كي تطمس ماضيه, وتجعل درب مستقبله ضبابياً مشوشاً ضائع الخطوات , وفاقداً للبصر ..
وإذا كان صمود الإنسان السوري في وجه المؤامرة أسطورياً . فإن ذلك يرجع للأساس المتين الذي بني عليه . والمدنية التي عرفها قبل غيره . وإيمانه المطلق أن الدين لله والوطن للجميع ولا شيء غير ذلك .
•    عيد الميلاد
هي السنة الخامسة التي يطل علينا عيد الميلاد بها يحمل مع شموعه شعاع الأمل القادم مبدداً حزناً لا يجوز أن يدفعنا إلى فقدان الرجاء  والإحباط والأمنيات . بل يكون مناسبة لتخليد الشهداء الذين ضحوا, ولتكريم الأسر التي قدمت . والانحناء إجلالاً لتلك العظمة التي أظهرها الشريف السوري متمسكاً بالوطن . يأتي العيد مع نهاية سنة شهدت الكثير من الأحداث المؤسفة والضحايا الأبرياء . الذين انهالت عليهم قذائف العصابات المسلحة . وآخرها في مدينة اللاذقية شهداء موقف (اسبيرو) بالقرب من جامعة تشرين ومعظمهم طلبة كانوا في طريقهم إلى جامعتهم أو عائدين منها . حين سقط الحقد عليهم في ساعة الذروة , فارتقوا إلى جنة الخلد , بعد أن تبعثرت دفاترهم وكتبهم وأقلامهم على الأرض . في مشهد لا يترجم إلا بمدى الوحشية التي يحملها هؤلاء الحاقدون على الوطن والإنسان . وكانت اللاذقية قبل الأزمة تعيش طقوسها الميلادية بفرح يجتمع الناس فيها من زوار ومغتربين . ينطلقون إلى المصايف والجبال وشاطئ البحر, ومواقع الآثار الدينية. وكانت تستقبلهم في مصيف (عرامو) كنيسة القديس (استيفانوس) التي تقع إلى الشرق من المدينة تبعد عنها60 كيلو متر . وتاريخ بنائها يعود العام 1320 م حسب ما هو مدون على لوحة حجرية علقت على مدخلها . وكانت الاحتفالات تبدأ قبل يوم الميلاد بأسبوعين . تزين الكنيسة وتنار ساحتها الأمامية وقد سميت نسبة إلى أحد تلاميذ السيد المسيح وأول  شهيد في المسيحية . وهي مبنية من الحجر الكلسي وتم تجديدها عام 1958, وهي باقية على حالها منذ ذلك التاريخ. وكذلك احتفالات أخرى في موقع دير توما الواقع بالقرب من بلدة عرامو أيضاً . ويعود تاريخ بناء الدير إلى القرن الخامس الميلادي . وهو مشيد من الحجر , على شكل قبو . فيعود إلى القرن الرابع الميلادي , وهو مؤلف من خمسة كهوف منها الطبيعي أو المنحوت وأكبرها تحول إلى كنيسة وبقية الكهوف تمتد إلى الشرق والغرب  , ويقال أنها كانت مخصصة لسكن الرهبان , وتجد على الجدران صلباناً منقوشة , وقد أكد الباحث الأثري الإيطالي (ادريانو الباجو) بعد دراسته التي كانت بين عامي 1981 – 1983 م أن المكان ومجموعة الكهوف تمثل ديراً أرمنياً يعود للقرن الرابع ميلادي . كانت احتفالات الميلاد تقام في بلدة عرامو الواقعة على طريق مصيف سلمى – صلنفة . وكان أهالي اللاذقية يعتبرونها مناسبة للقاء ويجتمعون في عرامو ويمضون فيها أياماً من الفرحة يتبادلون التهاني بالعيد ويمارسون طقوس الدينية كل حسب ما يؤمن دون تمييز أو تفريق .
•    الوفد التونسي :
قبل وقوع الأحداث المؤسفة التي غيرت في حياة السوريين وغيبت عنهم السعادة والفرح كنت مرافقاً لوفد من أدباء تونس الشقيقة وتصادفت زيارتهم إلى اللاذقية مع اقتراب عيد الميلاد المجيد . ولم تكن زيارة بلدة عرامو مبرمجة ضمن جدول أعمال الوفد . لكني اقترحت عليهم ذلك , فرحبوا خاصة وأن المنطقة جبلية , خضراء . وحين وصلنا إلى دير مارجاورجيوس كانت ثمة مجموعة قد سبقتنا إلى هناك  شبان وشابات حضروا من حلب . وآخرون من دمشق . وعدد لا بأس به من طرطوس واللاذقية وبعد أن تمت زيارتنا للدير وشرح تاريخه دعونا للمشاركة مع الزوار الذين توحدوا جميعهم . ويحصلون على الصور التذكارية ويغنون ويرقصون مما أدهش الوفد التونسي الذي لقي منهم الترحيب والحفاوة والتكريم وأثناء أحاديث أفراد الوفد مع بعض المتواجدين عرفوا أن هؤلاء لا ينتمون لطائفة واحدة . وإنما هم خليط وجميعهم يحتفلون بالميلاد . وبينت لهم أنه المجتمع السوري الواحد المتجانس ووجدت اهتماماً من أحد أفراد الوفد ليخبرني بعد سفره إلى تونس أنه قدم برنامجاً في الإذاعة التونسية لمدة 30 دقيقة عن تلك المنطقة التاريخية السورية الرائعة وشهادات كان قد حصل عليها.وأن جميع أعضاء الوفد خرجوا  بانطباعات ما كانوا يعرفونها عن المجتمع السوري سابقاً خاصة تلك الأخوة الوطنية والوحدة الفكرية . وقد رأوا متدينات مسيحيات ومسلمات يمارسون طقوسهم في المكان ..
حولت الحرب اللعينة مصيف سلمى ومحيطه إلى منطقة ساخنة مشتعلة وأصبح من الصعب الوصول إلى بلدة عرامو القريبة والتي اقتربت منها إلى حد ما الاشتباكات قبل أن يحرر أبطال الجيش العربي السوري منطقة (دورين) .
ميلاد محبة وسلام لسورية الحبيبة ميلاد شفاء لجرح نزف. ولفرح أطفال عاشوا اليتم  والقهر والصدمة التي لم تعرفها بلادنا من قبل . وعام جديد يطل وقد تحقق النصر ورجعت الطمأنينة إلى القلوب . للشهداء الرحمة وللبلاد العزة والشموخ الذين بفضلهم وبفضل شرفاء الوطن وصمود شعبه ستبقى سورية مرفوعة الراية ولن تنحني أبداً مهما كانت التحديات والمؤامرات .