من قبل وما بعد ما الذي تبدل؟

من قبل وما بعد ما الذي تبدل؟

الأزمنة

السبت، ٧ نوفمبر ٢٠١٥

زهير جبور
تخرج الشعوب من أزماتها بعبر ذات معنى، تسعى لترسيخها والعمل عليها كي لا يتكرر الذي حصل، وتلغي الأخطاء التي أدت إليه، ما يمكن أن يسمى الاتعاظ، وهو سلوك يجب أن يدخل حياة المجتمع بعد نكبته، أزمته. فداحة خسارته الجسدية. النفسية. الاقتصادية. وغيرها. نلاحظ الآن ثمة تصرفات. أفكار. لم تستدرك ماذا حل بوطننا الغالي، وأي جحيم يعيشه منذ بداية الأحداث الدموية، بل على العكس سخر كوسيلة للوصول إلى أهداف وغايات ما كانت تظهر لولا المأساة التي حلت والمؤامرة وهي تجر الخراب الذي نشهده ولا حاجة لاستعراض نماذجه، وهو لا يتمركز في مكان واحد؛ بل اتسع ليشمل رقعة الوطن بكامله، ولنعترف أنه غيب عند بعض الناس مفهوم الأخوة الذي يدفعهم للتشارك، والمفترض أن الإحساس بالوجع يحقق التعاطف النبيل وما ينتج عنه من تقارب نفسي واجتماعي يلغي الحواجز ويبعد ما هو ضار، وينهي غيبية أفكار لم تلمس حقيقتها، وتم تداولها بين تفاوتات القناعات أو دونها، وفي مفهوم الحرية أن الإنسان لا يملكها حين تمارس بغير أسسها القانونية وانعكاسها على الجماعة سلباً، وخروجها عن التهذيب العام، وحتى الفكر الوجودي بتعريفه لها لم يطلقها كما يشاء من يريد الإساءة ويحملها على أنها خصوصية يتميز يمكنه قتل الآخر إن دفعه مفهومه الذي لا يتعدى حدود شخصيته فقط، والتفاهم يبدأ من المشاركة العامة بذات الحالة النفسية وليس الخروج عنها والتفرد بها وهنا يبرز الشواذ.
حقيقة حملت أفكاري ورغبت في أن أشير إلى ما أحدثته فينا الأزمة من تغيير، بحياتنا، عاداتنا، طريقة عيشنا، صداقاتنا، تقربنا من الوطن والابتعاد عنه، كيف أدركنا المسؤولية وتعاملنا معها، وأبرزناها على أنها تعني الجميع ولا إعفاء لأحد منها، فهل فعلنا ذلك؟
لا بد أن الإجابات لن تكون معممة، وهناك تضحيات وبطولات قدمت، تجاوزت حدود الشجاعة إلى ما بعد الخيال، وأصعب عشق في جوهره النقي يصب في الوطن ليزيل الفرديات والأنانيات والمصالح، وضيق التفكير ومركبات النقص، منطلقاً صوب الفداء والبطولة والدفاع عن الشرف والأرض والأهل والأخوة متحرراً من الجبن والتراجع لا تردد فيه، في حال مجابهة الخطر العام الذي يهدد الجميع، ومن أجل القضية الأسمى ينبغي أن تسقط نزعة الفردية.
•    فماذا حدث؟
طرحت السؤال على مجموعة من الناس. مختلفة في أعمالها، وتفكيرها, وحياتها. بين فقراء وأغنياء, صغار وكبار, صبايا وسيدات. وكنت أجمع الإجابات وألخصها. حسب زعمي أنها ستفيد التاريخ مستقبلاً إن كانت ليست ذات جدوى في الوقت الحاضر, وهذا ما كان ينبغي أن نسارع لتوثيقه ونشكل ورش العمل التاريخية, رصداً وتوثيقاً كي لا تترك الفاجعة للذاكرة الشعبية التي سوف تحذف وتضيف مع تقدم الزمن.
وكان من المفترض أن ننشط ثقافة الأزمة، لأنها لم تتمكن من أخذ دورها الحقيقي. شهدنا غياب التوثيق، مع ملاحظة أن الإعلام المرئي أو المكتوب منفرداً لا يفي بالغرض المستقبلي. ومن هنا نسجل أننا لم نبتكر بثقافتنا أساليب جديدة تتساوى مع حجم المؤامرة وطبيعة شراستها وتهديدها، على العكس أبقينا الخطاب الثقافي على حاله واكتشفنا سلبيات ما عملنا عليه قديماً. ثقافة عمالية, شعبية. جماهيرية متواصلة ومدعمة للمواقف الوطنية. وفي حال الأزمة سوف تنهض متفاعلة محددة موقفها الثابت. تشكل الفراغ ليثبت أننا لم نكن جادين, ومجمل العمل اقتصر على تقارير للإعلام. والخطابات والفوائد الشخصية لمن كانوا يشرفون. وهذا ما يدعو لإعادة النظر ومعالجة الأخطاء, وفرز الصالح من الضار, والسعي نحو المستقبل الذي كنا نريده قبل خلاصة تجربة الدمار التي تعرضنا لها وطالت سنوات. وبناء الإنسان قبل الحجر, والتخلص من الزيف والادعاء والمصالح ليتساوى ذلك مع الانتصار العسكري والحرب التي تخوضها قواتنا العربية السورية وصولاً إلى النتائج الحتمية كما أكد صمود أبناء الوطن الشرفاء، تقول سيدة: إن الذي تغير فينا هي طبيعة علاقتنا مع بعضنا. والأحداث جاءت مناسبة لنتقارب ونتحد ونظهر قوة الحب مساندة لقوة الجيش وعمله الجبار. هل تجد في استغلال بعض التجار وهم كثر مثل هذا الشعور. وكان من الواجب ألا نهمل واجباتنا في التربية, والمعرفة. ونضع لأولادنا حصانة عدم الوقوع في الفراغ النفسي الذي يؤثر في حياتهم مستقبلاً, وللمجتمع دوره. وكذلك للأب والأم والمدرسة. فهل نجحنا في هذا لنعترف أن صدمة الأزمة وشدة وقعها جعلتنا نهمل أشياء كثيرة ينبغي أن نستدركها الآن ونسارع لتطبيقها ونتكاتف من أجلها.
وما تغير أن بعض ضعاف النفوس وجدوا في الأزمة فرصة لتنشيط بذور التفرقة والابتعاد عن جيرة وصداقات جمعتهم وكانت خلبية، لم تصمد أمام هزة كهذه عليها أن تنهي طبيعة العفن الذي جمل مبطناً لوقت طويل في كثير من النفوس.
ضحك جابر حين طرحت عليه السؤال.. ردد.. ماذا تغير؟ وأضاف: يؤسفني أن أقول: بعد أن خسرنا الأمان والرفاه الذي كنا نعيشه كشف الغطاء عن هشاشة اجتماعية تسترنا عليها من دون معالجة فوجدناها في الكثير من الأماكن. ولم يكن الفساد يخص الجهات المسؤولة والإدارات الإنتاجية بل كان داخل المجتمع وبين علاقات الأفراد والآن عصابات لسرقة السيارات ظاهرة. نسمع اليوم عن عدد من السيارات يركنها أصحابها في شوارع بيوتهم ويستيقظون فلا يجدونها، يتخذون الإجراءات القانونية التي لم تعط نتائجها. وبالطبع علمت بسيارة فرع اتحاد الكتاب العرب نوع (سابا) التي اختفت من أمام مقر الاتحاد. تصور وصلت الوقاحة إلى هذا الحد. وهي الثانية التي تسرق لجهات عامة. وهذا الأمر ينبغي أن يسيطر عليه. وهل صحيح أن الجهات المسؤولة عاجزة عن كشف الفاعلين. والموضوع تحول إلى ظاهرة وتجاوز مرحلة الاستثناء. إنه القلق الذي دخل على حياتنا فأفقدنا بعض التوازن وعلينا أن نعيده ولا يحصل ذلك إلا بعد استرجاع ثقتنا بمن يشرفون على تنفيذ القانون. ويديرون الشؤون، شهداء يضحون على جبهات القتال. وفقراء يواجهون الجوع. وسماسرة فاسدون في كل المفاصل يستغلون، يتاجرون. لا يحللون ولا يحرمون. وكلنا نعرفهم. تغير في حياتنا أن بشاعتنا كانت بعيدة قليلاً الآن اقتربنا منها من دون خجل ولا أخلاق.
وحادثة يمكن أن تدرج في بند صدق أو لا تصدق. قبل يوم دفن الرجل بالمقبرة في اليوم الثاني مباشرة يتصل أحد أولاده بالمكان الذي يعمل به مستفسراً عن التعويضات المالية المستحقة لوالده، أليس هذا التصرف بعيداً عن أخلاقياتنا وسلوكنا وتربيتنا؟ وحادثة أخرى من هذا القبيل أثناء دفن المرحوم اقترب الصهر من المحامي ليسأله ما الإجراءات التي سنتخذها بخصوص الورثة. وأحد الأصدقاء طلب من صديق عزيز قديم إيصال ظرف لبيت أخته في جديدة عرطوز بدمشق وحين عاد شكره الصديق على خدمته التي قدمها، فلم يكن منه إلا أن طلب ثمن أجار إيصاله. يمكن القول إنها حوادث فردية تحصل في كل زمان. لكنها لم تكن طبائع مجتمعنا, ونصر على أنها ليست من طباع مجتمعنا أدخلتها الأزمة التي كشفت العيوب. وبالمقابل حققت حضوراً للإنسان السوري الأصيل الذي علم العالم كيف يكون حب الوطن. والموت من أجله.. ويجب أن يصب عملنا في إعادة النفوس الضالة إلى وعيها وطبيعتها. أن تستأصل بالعمل الجراحي المتقن أمراض وافدة وليست متجذرة, والعودة إلى مجتمعنا المحب. الصادق. الوفي. لا تتم إلا في الانتصار. وبتر الفساد. وأخلاق السوري الذي عرفت عنه منذ فجر التاريخ.