تعددت الأسباب والاختناق واحد

تعددت الأسباب والاختناق واحد

الأزمنة

الأحد، ١ نوفمبر ٢٠١٥

زهير جبور
يسمونها شعبياً مطرة الصليب، وتحمل اسمه ارتباطاً بالطقس، وحين تصلب الطبيعة تبدأ بحالة التبدل التدريجي بين فصلي الصيف والخريف والدخول في البرودة، وملاحظة اصفرار أوراق الشجر استعداداً لسقوطها، وللطقس المعني علاقة قديمة، استمدت من فهم الإنسان للطبيعة وتتالي الفصول، وفي عيد الصليب تقام احتفالات دينية مركزها بلدات (معلولا) (صيدنايا) بريف دمشق وغيرها، وتمتد إلى باقي المحافظات السورية،  وفي ريف الساحل تقام طقوس دينية يشارك بها الجميع، وفي اللاذقية كنيسة حملت اسم الصليب منذ عام 1718م، وحسب المصادر كانت وما زالت تقام بداخلها مباهج العيد، تشاركها جميع الكنائس بالمدينة والريف، ويرمز إلى ارتباط الإنسان بالأرض والزرع و الشجر، ومن فكرة عيد الصليب ولدت تسمية مطرة الزيتون، أو مطرة الصليب وكلاهما واحد، وحين يهطل المطر ومن بعده بأسبوع على الأقل سيباشر بقطاف الزيتون، معلومة عفوية ترسخت في عقول الأجيال المتعاقبة توصلت إليها من خلال التعامل العفوي مع الأرض والمطر والثمر، وستكون حبة الزيتون من قبلها مغبرة، قليلة الزيت، لتأتي المطرة في موعدها الثابت سنوياً والمحدد بين أيام عرفها القدماء جيداً وضبطوا تاريخها، مؤكدين فراستهم المناخية  أهم من الأرصاد الجوية التي غالباً ما تخرج عن توقعاتها، وللطبيعة أيضاً شؤونها ومزاجيتها، سلاستها وغضبها، وقبل العاصفة الرملية النادرة التي شهدتها البلاد في الشهر المنصرم أعلمتنا الأرصاد أن الجو في اليوم القادم مشمساً والحرارة فوق معدلها، لنفاجأ بالغبار الكثيف جداً الذي نفى  توقعات الرصد، وبعيداً عن ذلك فإن مطرة الزيتون هذه المتوافقة مع عيد الصليب، تعتبر عند الأتقياء والصالحين من نعم الله تبعث في حبة الزيتون النضارة وتزودها بمزيد من الزيت وتجعلها ممتلئة، وتكبرها في أيام قليلة، وتهيئها للقطاف والعصر، وجملة بعد المطرة أو بعد عيد الصليب  تتكرر على أفواه الفلاحين وهم يحددون موعد القطاف من خلالها، فكرة علمية صرفة، لم تدرسها المختبرات العالمية ولا علماء الزراعة، بل توارثتها الأجيال منذ القدم وطبقتها وعرفت نتائجها الإيجابية جداً، وهي تفيد أيضاً حبة الرمان وتكثر من مائها الأحمر وتجعلها جاهزة للقطف، لكنهم بكروا عليه في هذا الموسم من أجل بيعه قبل الأوان بسبب العجز المالي الذي يواجه منتجوه، كما تحدثوا إلينا، فوصلت إلى الاستهلاك حبة صغيرة الحجم، لا تصلح للعصر، أما الزيتون فهو مصدر الرزق الرئيس المعتمد عليه، وتبنى في جنيه الآمال بكميات أكبر من الزيت وجودته وانخفاض أسعاره، والزيتون لا يمكن الاستغناء عنه في المائدة الفقيرة والغنية (حبة زيتون ورغيف خبز وكاسة شاي وكفاها الله) وهذه الأمنية البسيطة الصغيرة أصبحت لها كلفتها الباهظة، والقناعة عند الفقراء كنزهم لا يصله الأثرياء، وبالمال الكثير قد يفقد الإنسان جوهر قناعته إن كرسها لأجله، ويا للجحيم إن تطاول حتى الإنسانية وقتلها.
•    بعد المطرة
هي تفرح الناس بالوجهين الديني والاقتصادي، وقد هطلت في الأسبوع الماضي غزيرة، غسلت وجه الأرض، وأحيت الشجر، وطافت شوارع المدينة بسبب إهمال صيانة فوهات التصريف، ولا شيء جديداً فالأمر مكرر دائماً، وحفر الشوارع تعيق السير بشكل لا يخفى على الماشي والسائق، معلناً بوضوح عن فساد لا يتوقف  هنا، بل يشمل مفاصل العيش بكاملها وبلا استثناء، إذاً تمت فرحة المطرة وتصاعد أمل الإنتاج في معادلة الزيت والزيتون، فهل ستحقق انخفاضاً في الأسعار التي هي هم الناس، وكانت قد أقلقتهم كثيراً في الموسم الماضي وحرمت الكثير جداً من أكل الزعتر والزيت، أو منفرداً مع رغيف خبز، وفي الموسم السابق كان الإنتاج متراجعاً، وجرى احتكار المادة من قبل التجار، وصودرت قبل عصرها، ودفعت أثمانها التي تتضاعف مرات لمجرد تسلمها للتجار، كشفت جولتنا على البساتين عن موسم جيد، بدأت الأسر من صغيرها إلى كبيرها تشارك في قطافه، وإجراء عملية الفرز بين زيتون الأكل والآخر للعصر، وواجهتهم صعوبات متعددة .
قال أبو علي إسماعيل: إن أجور اليد العاملة مرتفعة جداً وهي مفقودة حالياً، لتصل أجرة العامل اليومية إلى /6000/ ل.س مع وجبات الطعام، أما عمال الفرط فيتقاضون /3000/ ل.س بالشروط المذكورة، وهو كما وضح يشرف على بستانه طوال العام، يراعي الأشجار كما تراعي الأم أطفالها حسب قوله، ويضيف: إنهم كانوا يحصلون على لتر الدواء سابقاً بمبلغ /275/ ل.س ليصل ثمنه اليوم إلى /3000/ ل.س وهو مبيد للأعشاب الضارة التي تنمو حول الشجر، تمتص منه الشراب والغذاء، وتساهم في نشر المرض الفتاك بالحبة، والتخلص منها يعتبر شرطاً للإنتاج السليم وجودته، وكانت معصرة الزيتون تتقاضى على البيدون الواحد سعة 20 ليتراً مبلغ /1000/ ل.س ارتفع الآن إلى /1500/ ل.س وبناء عليه فهو لا يجد أن ثمة فرصة للانخفاض في سعر الزيت ولا الزيتون، والمهم حالياً المحافظة على سعر العام الماضي والبالغ /16000/ ل.س للنوع المتوسط و/18000/ل.س للنوع الأجود و/20 إلى25/ ألفاً للنوع الجيد، وفي حال احتكار التجار سواء للتصدير أو للتخزين أو للسوق السوداء، فإن السعر سيرتفع حسب التوقعات بوجود حماية للمستهلك أو بدونها، وهي لاستهلاكه وليست لحمايته كما تطرح الآراء المستمدة حقيقتها من أرض الواقع، وليس من تنظير المعنيين، وتتراوح أسعار الزيتون بين /4000-5000-6000/ ل.س للتنكة الواحدة سعة 12 كغ وهذا يخضع لجودته، أما زيت الخريج المشهور والمفضل عند من اعتادوا عليه، فإن البيدون الواحد يباع بين 25-30 ألف ليرة سورية وهذا النوع يخضع لعمليات دقيقة.. نشر الحبة في الشمس لعدة أيام، ولاستخراجه تبذل جهود مضاعفة.
•    ماذا يقولون؟
كانت الآراء متقاربة كثيراً وبكاملها أن المسألة غير مجدية ولا تؤمن الدخل المتساوي مع الجهد والإنفاق، ووجدوا أن ارتفاع الأسعار ليس لمصلحتهم، ففي الماضي وحين كانت الأسعار مدروسة ومعقولة، ولم يحدث هذا الارتفاع الجنوني في كل شيء، كانوا يؤمنون ربحهم العادل ما يرضي ضمائرهم، بينما الآن تستفزهم مراحل العمل بكاملها، ويتحكم بهم الغلاء الفاحش، والأدوية ترتفع بشكل آلي غير قابل للانخفاض، واليد العاملة أصبحت نادرة يفتشون عنها، وفي الماضي كان يتعاون الجميع أثناء موسم القطاف. الشباب. البنات. الآباء. الأمهات. الجدات. الأجداد. كان فرحة وبهجة. ويوزعون على المحتاجين ولا يبخلون في العطاء، قال أحدهم: هل تصدق أنني احتجت في بيتي إلى كمية من الزيت، فقمت بشرائها وضحكت.. هل يعقل ذلك؟ أجاب: أقسم لك اشتريتها وأنا أملك هذا البستان الذي تراه، فقلت لماذا لم تستنجد بالجيران؟ ضحك ولم يرد على الاستفسار، لكنه أضاف بعد صمت ألم تسمع بالمثل القائل: (الإسكافي حافي)؟ هذا ما حصل معي، كان الخبز في السابق يختلف عما هو عليه الآن، تبدل كل شيء، ووصل الانهيار إلى النفوس، إذا أجرينا العملية الحسابية فإن الخسارة قائمة لكنها الأرض التي تربينا عليها، ما ورثناه من أجدادنا، ولن نتخلى أو نهاجر مهما كانت الظروف، ولدنا هنا وسنموت هنا.
موسم القطاف في أوجه الآن، ومنه ما يُرحل حالاً إلى العصر لإنتاج الزيت، وثمة بشر يتطلعون لما يجري مترددين بين الشراء أو تأجيله إلى حين انخفاض السعر، والمادة ينبغي أن تتوافر في كل البيوت، لأنها تدخل في كل الأطعمه، تبدأ من لفافة الزعتر والزيت، ولها في نفوس الأجيال بكاملها مكانة وذكريات، وكذلك أكل الزيت والخبز، ويا له من مذاق لا يدركه إلا من جربه، وهو أكل الفقراء، الذي إن حددنا مواصفاته شعرياً فسوف يفوق بمتعته موائد الترف والتخمة، وفي بعده يحمل صفات الإنسان المكافح، المؤمن، المخلص ، حتى لو أمضى حياته بأكل الزيت والخبز مغمساً.