صور نأمل أن نعيشها من جديد

صور نأمل أن نعيشها من جديد

الأزمنة

السبت، ٢٥ يوليو ٢٠١٥

زهير جبور
إنها الأيام التي كانت تشغل جميع أبناء الساحل من دون استثناء، وهم يريدون أن يكون صيفهم سياحياً متميزاً، يرضي زوارهم ويحقق لهم الفائدة المرجوة وخاصة أنها – أي السياحة- تعتبر السند المادي الأكثر دعماً لاقتصادهم الأسري، وفي السابق كانت ورش إصلاح اللنشات البحرية تنجز أعمالها لترفع الأعلام فوقها والزينة البسيطة المحببة لمن يرغبون في النزهة البحرية، والزوار يتسابقون لركوب البحر مع الأغنيات التي تبثها المسجلات داخل البحر لتصل أصوات أنغامها إلى الشاطئ، والرواد يمارسون متعة السباحة، أو الاستلقاء على الرمل، ونسبة منهم منهمكة في دهن الزيت على الأجساد كي لا تحرقها الشمس، منظر كان مألوفاً بالنسبة إلينا أبناء الساحل ولا نبالغ إذا قلنا إن هذه المواد المرطبة والحامية كانت تحقق استهلاكاً تجارياً مرتفعاً، وتعتبر الجانب الضئيل جداً من الإنفاق السياحي الذي يستعد له الناس، ويقيمون له حساباً خاصاً على مدار السنة، عائلات كثيرة كانت تعتمد على هذا الدخل، وهي تحضر المواد المطلوبة قبل عدة أشهر ليجول العاملون وهم يحملون (شنت) تتواجد بداخلها زجاجات العطر، وعبوات مزيل العرق، ولبعض هؤلاء زبائنهم الذين عرفوهم من قبل، وكانت حملات النظافة الشاطئية والغابات والمواقع السياحية الأخرى تأخذ أهميتها القصوى من قبل الجهات المعنية، التي تستنفر عناصرها وتستعين بشباب المعسكرات الصيفية، الذين يجدونها فرصة للالتحاق بالمعسكر، وتأمين الدخل المتواضع، وقضاء فترة الصيف في أحضان الطبيعة، ولا ننسى في هذا الطقس البحري الخاص الصيادين الذين يعيشون من خير البحر، وهم يبيعون ما اصطادوه منتشرين بين الشاليهات والتجمعات يصرخون (يا الله على السمك.. سمك تازا هلأ طالع من البحر) صور جميلة جداً، بسيطة بتفاصيلها وقد لا تعني شيئاً لمن لا يريدون التدقيق فيها وتأملها، وفي سنوات غيابها بسبب الأزمة المؤسفة التي ضربت البلاد وأحرقت الأرض والشجر والطيور، عانت الكثير، وهي محجوبة. مفقودة. لا أثر لها. سياحة اللنشات البحرية كانت الأكثر رواجاً وشهرة بين طرطوس وجزيرة أرواد الوحيدة على امتداد ساحلنا والمأهولة بالسكان الذين يعملون في صناعة السفن والقوارب واللنشات، وهم أبناء البحر في عمقه، يعرفونه بكامل تقلباته ومزاجياته، بل ويحاورونه بمشاعرهم بحكم حياتهم في وسطه، وكذلك سكان البسيط، وفيها أكثر من (300) لانش سياحي، حين يطوفون في البحر يقدمون للزائر الذي يتابعهم من الشط منظراً بديعاً، طالما جذب إليه كبار الفنانين الذين خلدتهم لوحاتهم البحرية، وهو المشهد الذي يرسل الإلهام الإبداعي في نفوس الشعراء والكتاب، وأدب البحر مصنف عالمياً لكنه لم يأخذ حقه في بلادنا، وقد تألق به الروائي السوري حنا مينة الذي تمكن من إملاء الفراغ الروائي وحيداً، ليبقى غائباً إلى حد ما عن القصة القصيرة، وغزيراً في الشعر، وثمة أدب للبحيرات انتشر في بلاد أخرى، ولم يصل إلى بلادنا لأن الكتاب الذين يعيشون ببلدات محاذية لها ما اشتغلوا عليها أدبياً وثمة تقصير في ذلك، وخلدت رواية الراحل فارس زرزور بحيرة الأسد في الطبقة بعنوان (آن له أن ينصاع) وهي الأقرب في أدبنا السوري للبحيرات، وتعامل الناس مع الطبيعة ولدينا في الساحل السوري مجموعة منها كان من الممكن تناولها، ومنها مثلاً (بحيرة الباسل) في طرطوس الممتدة على مساحة واسعة تحيط بها القرى بحكايتها الشائقة، وقصصها الغنية، مع ملاحظة أن مشهد الماء وخضرتها لها التأثير المباشر على الحس العاطفي والحب، وفي مدينة جبلة بحيرة السن ذات الطابع الأسطوري ويعود زمنها الجيولوجي إلى آلاف السنين، من منبعها في الانحدار الجبلي الشاهق إلى مصبها عبر أقصر نهر في العالم (1) كم فقط تبعث الكثير من الإبداع والإلهام الأدبي، وبمحاذاتها سهل جبلة الأسطوري الشاهد القائم على تاريخ الساحل وامتداده وقلاعه وحروبه وحضارته وشواهد أخرى، لكن العين الأدبية لم ترصدها، ولم تنل رصداً يليق بها من العين السياحية، التي غفلت عنها خلال سنوات طويلة ماضية ولم يستدرك الأمر لتحل الصحوة حين راحت العصابات الإرهابية تهدد التاريخ، وهذه بحيرة بللوران الواقعة على بعد حوالي ثلاثين كيلو متراً على طريق اللاذقية. كسب. محاطة بغابات الصنوبر، تأخذ شكلاً دائرياً رسمته لها طبيعة الجبال المحيطة، ورغم مساحتها المتوسطة إلا أنها تشكل في هذه البقعة من الأرض لوحة خارقة بجمالها، شهدت قبل الأزمة اللعينة الدموية حركة نشطة أقيمت حولها المطاعم بلا فنادق، واستقطبت السياحة الشعبية الترفيهية التي لا تتميز في إنفاقها السياحي المعتمد عليه اقتصادياً لكنها توفر للقادمين من الداخل مناخاً بحرياً. جبلياً. يحتاجونه في إجازاتهم وعطلهم، يجمعون بين السباحة البحرية والجبل، ولها أيضاً صورها التي لا تغيب عن الذاكرة، ومجموعات الرحلات المدرسية تؤمها وكانت مجدولة في البرامج على أنها موقع ممتاز للرحلات الاستطلاعية والمعرفية.
وهذا الأمر ينطبق على بحيرة 16 تشرين الواقعة على بعد 15 كم إلى الشرق من مدينة اللاذقية طريق حلب على النهر الكبير الشمالي، في موقع تتوسطه بطول 12كم محاطة بالهضاب ومن جهتها الغربية بلدات مرتفعة تطل عليها في مناظر طبيعية لا يمكن أن ينساها الزوار وهم يسرعون لالتقاط الصور، وللأسف تعرضت بحيرة بلوران و16 تشرين لقصف العصابات الإرهابية التي شوهت في العديد من المواقع وحرقت ودمرت، وبعض البلدات الساخنة هجرها سكانها، وهناك بحيرة الثورة على بعد 25كم شمال شرق اللاذقية، وموقع أم الطيور على بعد 30كم شمال اللاذقية بجوار شاطئ البحر على اليسار من طريق اللاذقية. البسيط. كسب. وفيها الغابات الخضراء التي تندرج بهدوء موسيقي حتى تلامس الشاطئ المكسو بالرمال الناعمة وتقدم مادة للسياحة الاستجمامية لعشاق البحر والغابة والجبل في آن واحد.
•    وفي العمق
لا نستطيع أن نعرف الساحل السوري على أنه البحر والسماء الصافية والطبيعة والخضرة والهواء فقط بل ينبغي أن نستكمل المعلومة بدقتها أن نبحث في الإنسان الذي ترك شواهد حفظتها الأزمان لتبقى سجلاً خالداً يروي قصصه وذاكرته على مر العصور، وهنا تلعب الثقافة والسياحة والأدب أدوارهم الكبيرة التي لا يمكن تجاوزها، وللإنصاف فقط فقد دخلت كاميرا المسلسلات السورية بعض هذه المواقع التي يمكن استخدامها الآن كنوع من الأرشيف، ولو بحثنا في الباقي فسنجد تقصيراً كبيراً، لم تدرس المناطق وتوثق، وها نحن في مواجهة مخيبة جداً لواقع غابات (الفرنلق) وقد بلغ عمر بعض أشجارها ألف عام وأكثر، ومثل هذه في الدول الأخرى تثبت هويتها وترصد سجلاتها كامل التفاصيل عنها ويد التدمير المتوحشة طالت أشجار الفرنلق وهي الآن مجرد جذوع متفحمة سوداء، وليس من سجل نعتمد عليه لنعيد لها نبضها، ونعمل على إحيائها، ألم يظهر التقصير الذي مارسناه على طبيعة كانت توفر المناخ المعتدل، والهواء النقي، والراحة النفسية؟ وما يرجى أن تكون هذه الأزمة المؤسفة المؤلمة قد أعطتنا درساً يجب ألا ننساه ما دمنا أحياء، وأن ننقله إلى أجيالنا القادمة كي لا تقع الأخطاء التي وقعنا بها، والأنانيات التي جرتنا لهاوية اللامسؤولية، وأن نزرع في نفوسهم ذلك الاهتمام الوطني الذي لا يبعدهم عن الشعور بوطنيتهم وبيئتهم وطبيعتهم، ولا بد أن سورية القادمة ستغذي ذلك وهي تنفض عنها غبار مأساة حلت وخرجت منها منتصرة... صور كثيرة غابت بتفاصيلها وها نحن نسترجعها آملين أن نعيشها من جديد.