ابتسام فقدت 33 فرداً من أسرتها.. وحياتها من أجل تأمين مستقبل أطفالها

ابتسام فقدت 33 فرداً من أسرتها.. وحياتها من أجل تأمين مستقبل أطفالها

الأزمنة

الثلاثاء، ٢٢ أبريل ٢٠١٤

زهير جبور
يعتبر الإرهاب الممارسة المدروسة للعنف وزرع الرعب لدى الآمنين والمدنيين وله أساليبه الدموية، وفظاعته الخارجة عن أي عرف، وما يجري في بلادنا من الإرهاب تخطى كل مفاهيم الإنسانية، وما ارتكب من مجازر ابتعد عن الطبيعية التي يمكن للبشر حملها، ومحركها الحقد الذي يدخل العقل في سواد يدفعه للقتل دون ردع، وفي تفاصيل هذا الموضوع ما يظهر نتائج الإرهاب الوحشي على سكان آمنين، بسطاء كانوا يعيشون حياتهم الاعتيادية والشبان والشابات منهم يخططون لمستقبلهم، إنها دموية فوق وصف.
   
يوم المجزرة
تقع البارودة في منطقة صلنفة، يفصلها عن مصيف سلمى واد، وتضم أفراداً من أسرة واحدة هم بيت (فطيمة) استيقظ سكانها في صباح يوم 4 آب 2013 على أصوات الطلقات النارية، والهجوم من قبل مجموعات إرهابية وأصواتهم ترتفع صارخين (اقتلوا الرجال) (اذبحوا الأطفال) (اسبوا النساء) هكذا دون سابق إنذار وجد أبناء البلدة أنفسهم في مواجهة الموت، كان بعض الشبان يقومون بالحراسة حين وقع الهجوم في الخامسة والنصف صباحاً، السيدة ابتسام سلمان فطيمة البالغة من العمر 33 سنة تروي للأزمنة تفاصيل الحدث الرهيب.. وتتابع أن الذين قاوموا استشهدوا جميعهم ومن بينهم والدها وأولاد عمها وقد استمر الاشتباك مدة ربع ساعة، وأعداد المهاجمين كبيرة جداً، هب الشبان الذين كانوا في البيوت للدفاع لكنهم سقطوا شهداء، دخلوا البلدة بهمجية لا يمارسها أحد ممّن ينتمون إلى الإنسان، وهؤلاء ليس لهم أية صلة به، استمروا في إطلاق النار عشوائياً دون تمييز وبين صراخ النساء وبكاء الأطفال وما أصابهم من ذعر وهول باشروا بتنفيذ مجزرة الذبح التي لا يمكن توقع حصولها، أو حتى مجرد التفكير بها، تتماسك ابتسام مستذكرة بانفعال تلك المشاهدات التي لا يمكن تقدير وحشيتها إلا لمن رآها بعينيه.
تقع البارودة على كتف الوادي، وتعتبر حياً من بلدة (برمسه) يعمل سكانها في زراعة: القمح. الفواكه. الخضار. إلى جانب الزيتون، وهذه مصادر رزقهم، منهم طلبة في الجامعة والمدارس، وعدد من الموظفين، وما تبقى يعملون في الأرض، كانت معارك سلمى تدور حولهم لكنهم لم يغادروا بلدتهم، وقد عرفوا بمحبتهم للجميع، واستقبالهم للزوار وكرمهم الريفي، وبساطة عيشهم، فجأة حلت عليهم المصيبة والفاجعة الدموية، فسقط الأطفال والنسوة والرجال والعجائز، وبعد تطويق المكان توقف إطلاق النار العشوائي، وكان النهار الدموي قد انتشر في كامل المناطق، والجثث مرمية على الأرض، ومن بينهم جرحى، فقاموا بالقضاء عليهم ذبحاً، دون رحمة ولا إنسانية، كأنهم يمارسون فعلاً اعتيادياً، فعاد صراخ الأحياء يعلو وهم يشاهدون القسوة الشيطانية ليطلب من الجميع الصمت، وعدم إثارة الضجة، وفوهات البنادق مصوبة نحوهم، وجاء التهديد أن أي مخالف ثمنه طلقة واحدة فقط، جمعوا الشابات على انفراد وجري فرزهم على أنهم سبايا واختاروا من عمر 15 إلى 25 سنة، ومن بينهم كما تقول ابتسام، أختها منى وبناتها سمارة وهي في السنة الثانية جامعة والأصغر نغم في المرحلة الإعدادية، واستشهد لها ثلاثة أولاد، وهكذا انتهت عائلتها باستثناء ابنتها لوتس المفقودة وقد أصيبت بقدميها وكانت تنزف، أما أفراد عائلتي فقد استشهد والدي ووالدتي وأختي وأخي، وأعمامي وعماتي وأولادهم، وبناتهم ومنهم المفقود أو المخطوف، وعددهم 33، واستشهد زوجي بحي (القزا) استغرق الأمر ساعات فقط بعد دخول الإرهابيين.
   
عائلة واحدة
حكم على العائلة أن تكون نهايتها في تلك الساعات القليلة جداً ليلعب القدر دوره وتنقذ ابتسام وأولادها وهم ما تبقى من أفراد أسرتها التي كانت في أصلها مؤلفة من ثلاثة أشقاء أنجبوا 15 ولداً تزوج منهم عشرة، وعمات ثلاث عدد أولادهم 16 ما بين ذكور وإناث، وفي ذلك اليوم الدامي الكارثي هوجمت بلدات (بارودة) (بشياني) ( حبوشية) (بلوطة) (أبو مكية) (ستربة) (بيت الشكوحي) ونقلت المعلومات التي وردت فيما بعد أن عدد المخطوفين 200 وأن تصفيات بالذبح تمت على الشبان، وأن المجازر الوحشية لحقت بجميع سكان هذه البلدات، وهم حتى اليوم لم يعرفوا من هم الأحياء أو الأموات وليس ثمة معلومات مؤكدة عن تلك الأرقام.
   
أكلوا أطفالاً
لم يقتصر الأمر على القتل أو الذبح، بل مارسوا تسليات حقيرة من فقء العيون بالسكاكين، وغرزها بالوجوه، وأثداء النسوة مستمتعين بمنظر تدفق الدم، والألم الشديد للمصابين، وبعد خروجهم شوهدت بقايا عظام لأطفالٍ صغارٍ قَلَوا أجسادها بالزيت وأكلوها، تاركين أدوات جريمتهم المقلاة، وعبوات الزيت، وقبل أن يغادروا كتبوا على الجدران (ما أطيب لحم أطفالكم مقلياً) ( شرفكم مسفوح وسباياكم بلا عرض) وتوضح ابتسام أنها شاهدت بعد مدة إحدى الفضائيات تبث مقابلة مع سعودي يتحدث أنه ذبح 12 شاباً شارحاً أن ما فعله لخدمة الإسلام، ويا للعار والخزي أن يزج الدين الحنيف في جريمة كهذه مرفوضة من الإنسانية بكاملها، وما هي إلا الكفر بالدين وخرق فاضح لقيمه وأخلاقياته، وليس لأمثال هؤلاء من دين أو إسلام وما هم إلا الأباليس على الأرض.
   
وستمضي الحياة
كنت أستمع إلى ابتسام وبداخلي انفعالات مختلفة، وهي تروي بهدوء وأسى وتقاطيع وجهها ونظراتها يعبران متداخلين مع الكلام فتستجمع قوتها وتتابع.. ثم تصمت.. أنتظرها حتى تعاود السرد ومشاعري تتقافز وثمة غصة أو حرقة، فما هو المبرر ليحكم عليهم بمثل هذه النهاية، وأي هول أصابهم وهم يواجهون قاتليهم، وتقول ابتسام إنها حتى الآن لا تصدق ما حصل لكن صدمة الحقيقة تجعلها متيقنة بفقدانها للأهل، لكنها تتمسك بالأمل، وتروي بذوره في نفسها، وهي تسعى الآن من أجل حياة أطفالها، (سأكافح وأجتاز الصعاب، وسوف أحمل مأساتي لكن شعوري بالوحدة يحمّلني الأعباء الكبيرة جداً)، أجبتها لست وحيدة وكل سوري شريف معك، ومع الأمهات اللواتي فقدن الأعزاء، أخبرتني ابتسام أنها في وقت متأخر علمت أن السيدة أسماء الأسد قد استدعت اللواتي فُجعن مثلها لمشاركتهن ومواساتهن، ونقلت ابتسام أمنيتها - التي ستخفف عنها كثيراً- لو أن الفرصة تتاح لها لمقابلة السيدة أسماء، وتضيف أنها لا تريد أي مطلب خاص، ما يهمها أن تتحدث إليها، فهذا يبعث بنفسها الطمأنينة، ويحفزها على المضي في طريق الحياة، وتعبر عن إيمانها الكبير بالنصر القادم، والتضحية واجب، وما حصل مكتوب علينا أن نحياه، سأتابع الحياة وأملي أن أحقق لأولادي المستقبل الأفضل وهذه رسالتي ولا أريد أي شيئاً غيرها.

المطلوب بعد ذلك
ليست مأساة ابتسام الوحيدة في بلادنا، ولا يمكن تجاهل الدور الذي تؤديه تجمعات المجتمع المدني الناشطة في تقديم الدعم المعنوي، وعلى الجهات المسؤولة أن تشارك هذه الجهات بفاعلية أكثر، وأن تنفرد بنشاطات نفسية متواصلة لامتصاص آثار الصدمة، وتسارع لتشكل لجاناً مختصة تقوم بعملها هذا وكذلك لجان أخرى مختصة ليُصار إلى تثبيت الأحداث وحفظها وتوثيقها من أجل التاريخ، وحتى الآن لم يحصل مثل ذلك والاعتماد على المتفرقات التي يرويها من شاهدوها، ولا بد أنها سوف تبقى في الذاكرة الشعبية ولن تغيب عنها، لكن تأريخها سيكون له حضوره مع الأجيال التي ستسأل لاحقاً ماذا جرى وكيف؟ وينبغي الإسراع في المعالجات الاجتماعية والنفسية والتربوية، ويترافق مع المساعدات المادية والغذائية ولا بد أن إزالة آثار عنف الصدمة أمر ضروري وهو ينعكس على حياة كل أسرة سورية سواء عاشت الأحداث أو وصلتها أخبارها، وما نحياه ليس طبيعياً بأي حال، وبناء الإنسان ينبغي أن يتساوى مع إشراقة شمس سورية وهي في طريقها إلى السطوع أملاً يزهر في قلوب جميع أبنائها.