وعادت ابتسامة عذراء الكهف

وعادت ابتسامة عذراء الكهف

الأزمنة

الثلاثاء، ٢٦ يناير ٢٠١٦

زهير جبور 
حين زرتها قبل ثلاثين عاماً أو أكثر، شعرت وحينها بذلك الوتر الروحي الذي ترددت أنغامه بداخلي، وتصاعد إحساس الاسترخاء، والتأمل، مطلقاً بصري، مشحوناً بطاقة طبيعة جعلتني بحالة أخرى، وهي المكان الذي يحتضن الجهات، في أجمل شروق يمكن أن تستحبه العين المبصرة، وفي الدقائق الأولى، والخيوط تنشر بهدوء فوق التلال، والغابات، والتداخلات المتماوجة، بطاقة سحر اللون، ومن تلك النقطة يتسع المدى، من طريق حلب. اللاذقية. وصولاً إلى إدلب وريفها، وذلك المسح الجيولوجي من الصخور العتيقة، وكما ذكر المهتم بالتاريخ والآثار إنها مناطق ما قبل التاريخ، فكيف يمكن أن تكون بغير ذلك؟ ويتنقل الجذب من مكان إلى آخر مجرداً. محايداً. مستثاراً. داخلاً في الثنايا.. إنها سلمى.. مصيف سلمى. بلدة سلمى. التي ذبحت أربع سنوات ويد الشر الإجرامية تعبث بها، وتفرض وحشيتها، حررها بواسل جيشنا العربي السوري، دخلوا إليها منتصرين، حاربوا في أيام صعبة، ثلجية قاسية، فحمل بياض الثلج تباشير الانتصار وتحقق، عادت للعذراء في كهفها ابتسامتها التي غابت عنها أيام الأسر، معارك عنيفة، وتضاريس قاسية، ووديان عميقة، كانت تمكن الأشرار من الاختباء والانتشار، يحتمون في خفاياها كي يتجنبوا ضربات الحق التي تسلط عليهم، ولينتصر أخيراً ويقهرهم وهو المنطق الطبيعي في ميزان الحياة، أن يكون الحق هو المنتصر مهما طال الزمن.
عادت سلمى بعد أن غابت عنا وغبنا عنها ىسنوات، وهي التي كانت فرحنا الموسمي، وموعد اللقاءات بعيدٌ عن الضجيج، هنا تنشد الطيور تغاريدها الشجية، فهل سمعت زقزقة طيور سلمى وهي تحط عند نبع الماء في واديها؟ وتقفز مشاكسة الطبيعة بفرحها، وهل رأيت شمساً تشرق من شرقها تمسح الكون على أنغام وتر، وصياح ديوك، واستقبال نهار جديد من الأمل، كانت تزدان في موسم قطاف التفاح كرنفالاً ملوناً، وفي مقام السيدة العذراء حيث المياه تنساب من بين الصخور، تتساقط نقطة نقطة، مياه نقية صافية كالبلور، وينهض الإيحاء النفسي تلقائياً ليعكس الخواص والعلاقات وتحيد الظواهر، كما يمكن تفسيرها، لتبدو العذراء في وقفتها حزينة. دامعة. أو مبتسمة وواثقة، وهي تسلم أمرها للرب الذي يرى ويحمي وينصر، ولكل زائر رؤيته معبراً عن إيمانه، ويعود مقامها للمسيحية الأولى، وقد تمت المحافظة عليه من أبناء المنطقة على مدى الأجيال، ولم يمسه أحد بسوء ورمم عدة مرات، وهو المكان المقدس عند الإسلام والمسيحيين، يزدحم صيفاً بالزوار والقادمين من خارج البلاد، إنها سلمى ما قبل التاريخ وما بعده، جمعت حضارات متعددة، وبقيت مؤمنة بإنسانها السوري القديم الذي ما عرف تفرقة ولا تمييزاً.
•    سلمى المصيف
عرفت سلمى كمصيف في نهاية القرن الماضي، وكانت شهرة مصيف صلنفة قد ازدهرت وانتشرت، وهي أقدم موقع في المنطقة عرف السياحة، وكان محيط صلنفة الممتد حتى سلمى عذرياً، وغابات غاية بالسحر  قبل ان تطولها يد الإنسان وتخرب آلته الهمجية في جمالها، من دون انسجام أو تخطيط ذوقي قبل أن يكون هندسياً، تبعد سلمى عن صلنفة 12 كم وبينهما مجموعة بلدات مثل (عرامو) المعروفة بتاريخها وآثارها ونبعها الذي يتوسطها، ودورين بتفاحها، وبينهما وبين سلمى كهف السيدة العذراء، وتبعد سلمى عن اللاذقية 48 كم، تتبع إدارياً إلى صلنفة، ترتفع عن سطح البحر 850 كم، ووصل عدد سكانها قبل أسرها إلى 2131 نسمة، في الصيف كان يصل عدد زوارها إلى ألف نسمة، منهم من امتلك شققاً ليسكنها، حين زرتها قديماً كانت عدة بيوت لأهالي المنطقة الكرام، الظرفاء من أسرها العريقة آل الحجي وبيازيد، وبعض البيوت من الحجر الأبيض المتوافر في محيطها، تحيطها الوديان من الجهة الغربية والشرقية، وتكثر فيها ينابيع المياه، ومن المؤكد أن كهوفها ومغاورها ترجع إلى ما قبل التاريخ حسب ما تم تقديره علمياً، وفي باطنها ثروة مهمة، ونسبة واسعة من أراضيها مغطاة بالفخار المبعثر على الأرض، واللقى الأثرية المتكشفة بسبب عوامل الطبيعة ومرور الزمن عليها، أما بلدة كنسبا فتبعد عنها 15 كم، وسلمى اسم علم مؤنث تعني السليمة. الناجية. الخالصة. ومذكرها مسلم، وبما أنها تحمل معناها فقد عادت محررة ناجية لكنها لم تخلص من الدمار والهتك، وقد حرقت بساتين التفاح واللوزيات التي اشتهرت بزراعتها، وفي معنى آخر لسلمى أن اللمى هي سمرة في باطن الشفة تذكيرها اللمى وتأنيثها لمياء.
•    نهضتها
بعد أن أمنت لها الطريق المريحة من صلنفة وصولاً إليها أو صعوداً عن طريق حلب وحتى غابات الفرنلق وكسب، وجد فيها زوارها الجمال الجاذب الذي أصابني حين شحنت بطاقة الطبيعة، وشعوري في احتضان الجهات والقفز فوق الأرض، فدخلتها بداية يد تجار اللاذقية وكانت متواضعة في الإنجاز، إلى أن وصلتها تجارة حلب، وهؤلاء سارعوا لإقامة شقق الاصطياف والفيلات بمواصفات هندسية، وخلال سنوات قصيرة اتسعت سلمى، خرجت في وسطها عن طبيعتها، سوق تجارية، بيوت للإيجار، أماكن للطعام، ما يهم السياحة وخدمتها، لكنها بقيت في محيطها محافظة على جمالها، ولو أن ذلك التشوه الحجري لم يصبها، ولو أن مجلسها الإداري أصر على أن يكون البناء منسجماً مع الطبيعة لكانت سلمى من أجمل مصايف العالم من دون مبالغة، وهذا لم يحصل، وإذا نظرنا إلى مصايفنا فسوف نأسف لغياب التخطيط السليم الذي لم يحرص على جمالية الغابة ولا الوادي، وفي البحر على الشاطئ وكأن مسألة الإساءة للطبيعة متعمدة، أو أنها تحولت إلى عادة لا علاج لها، تشوه كورنيش اللاذقية القديم والجديد، واليوم امتد التشوه إلى طريق الشاطئ الأزرق حيث الإسمنت الذي غطى الشاطئ، من مديرية المرفأ إلى منطقة أفاميا، وأقيم المطعم إلى جانب المطعم، وكأن العيون لا ترى أي خراب جرى، استقطبت سلمى عشاق الطبيعة الذين اتجهوا إليها، وحين كانت أسعار الأراضي ضمن حدودها المعقولة قبل ارتفاعها الخيالي بعد أن دخلها أبناء الخليج، حيث وفرت لهم الحكومة السورية الملكية الفردية والرعاية، وعاملتهم كمواطنين وأشقاء من أبناء الأمة العربية، فحلّ الغلاء الفاحش، وقبل أن يحل بلاء الأزمة، تمكن بعض أبناء اللاذقية من إقامة بيوت على قد الحال وفي سلمى المكان المقبول، والسعر الممكن دفعه، خليل الذي يعمل في مجال إصلاح العربات اشترى هناك بناء على رغبة زوجته وأولاده، ولم يستطع أن يقضي أي وقت، وبعد إنجاز البيت من عمار وفرش حلّ الإرهاب لينهي فرح العائلة، وقد انتظروا طويلاً لتحقيق حلمهم، عاد الأمل إليهم من جديد، وهم في انتظار الذهاب إلى هناك، وقال: إنه سيقيم حفل انتصار سورية على أعدائها في سلمى، وكذلك مؤتمن عاشق الطبيعة الذي حدثني وهو يعمل في مجال العطور عن ربيع سلمى المميز، وزهورها وأعشابها، ذات الفائدة الصحية، عادت سلمى وثمة مسؤوليات ينبغي أن يتحملها سكانها والجهات المختصة في إعادة الإعمار، وإعادة الحياة والإسراع لجعلها اللمى في الشفة الاصطيافية السورية.
لا بدَّ أن الانتصار قادم، وأن سورية السمراء سوف تعود مسترسلة الشعر، باسمة الثغر، ولها من يحميها، ويدافع عنها، ويضحي من أجلها. ويعيد للعذراء ابتسامتها، إن حاول الشر طمسها أو تغييبها، ولن تغيب حتماً.