نبض الشارع.. مظاهر الانقسام النفسي

نبض الشارع.. مظاهر الانقسام النفسي

الأزمنة

الأحد، ٦ ديسمبر ٢٠١٥

زهير جبور
تكثر الاستفسارات في الشدة التي ترخي حلكتها، متخطية حدود المنطق, ضاغطة لتخرج مسار التفكير عن طبيعته, محدثة تحولات ذات تأثير كبير على البنى الاجتماعية, الاقتصادية, وفي الاستقرار المجتمعي أنموذجاً للعيش الغني. المنتج على صعيد الأفراد والجماعات. أما في الوجه الآخر فثمة خلل بالتركيز وتشويش بسلامة الاستنتاج, وتراجع بالعطاء الفكري والجسدي. ومن يرد بناء الحياة يسعَ للأمان, ويحرص على السلم وينهي أحقاداً وهمية لا وجود لها. ويعمل على أن يجعل الخصوبة متفاعلة وليست عقيمة، والحضارة في الفكر السليم مطمحاً يزيل داء الجهل, ويغسل عفونة التخلف. وهو الذي فرض بالماضي، ولم نجتهد كثيراً للتخلص منه. وبعيداً عن كل التحليلات فإن ما تعرضت له بلادنا من مؤامرة مدمرة يصب في ترسيخ الجهل والتوسع ما أمكن ببلاء التخلف, وجعل المستقبل جحيماً لا مخرج منه, والجريمة لعبت دورها المؤثر, وهو ما نتج عنها أمراض نفسية، أدت إلى انقسامات في البناء العقلي وهي مظاهر دخلت شارعنا العام، منتشرة في الأماكن، تحمل نتائج الدمار النفسي إلى جانب ما هو قائم من دمارات أخرى. وكمية الهول المقذوفة تعمل على فقدان المناعة والدخول باليأس, وهذا بسبب عصابات لا تنتمي للبشر بأي حال، وبذواتهم نزعة الافتراس. ورائحة الدم تثير شهية القتل. وفي مواجهة كهذه ما يكون فوق احتمال العقل، وهل الذين ينفذون تلك الوحشية على علاقة بالإنسان، والمفردة مشتقة من الذهن العربي (الآنس) وهو من أصل الطباع البشرية, وفي الفلسفة أن الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه مستدركاً علاقة الفرد بالجماعة. والذين يحاربوننا لا علاقة لهم بالعرف. وهم لخصوا (الحيوان المفترس) ظاهرة معروفة لكن ليس إلى هذه الدرجة التي وصلها هؤلاء, وعلى الدراسات المعاصرة النفسية تحليلها, وتقدير خطورتها ونوعية إرهابها, وخرابها الذي لا يحد منه منطق الأنس, ولا الجن. وينبغي إيجاد نظريات عليها أن تتناول الفرز بين البشر الحقيقيين، ومن يشبهونهم وﻻ يحملون صفاتهم.
•    أين وصلنا؟
ستكون الأحداث الدموية المؤثر الأكبر على الحياة. هناك من يمتلكون المقدرة على تحمل الهول، وآخرون يفتقدونها, والفظاعة تؤدي إلى الاضطراب, وهو سلوك اجتماعي يتمثل في الأوهام. الهلوسة. انعدام الإرادة، وإلغاء المشاركة الاجتماعية. في شوارع اللاذقية بدت الحالات, وبسبب المهنة صرت أتابعها باهتمام, واجهتني صعوبة تحديد أعدادها, لكنها شكلت حضوراً بعد مرور وقت على الأزمة وتعتبر من إحدى نتائجها المدمرة. والموضوع يتطلب دراسة علمية تعتمد الاختصاص, والسبر المعرفي، وأرجو أن تكون هذه الإضاءة الصحفية بداية الاهتمام من قبل الجهات المختصة, والنتائج سلبية وخطرة ومؤدية إلى القلق والاكتئاب. ومسبباتها الحروب. البطالة. الفقر. وجميعها موجودة عندنا، وأهمها الحرب التي غيرت في السلوك العام والمفاهيم وأثرت في العقول. وسوف أستعرض بعض الحالات التي رصدتها في اللاذقية، وواجهني حرج المراقبة والمتابعة. وما يتطلبه العمل.
•    على الأرض
من تابعتهم كانوا من الناس العاديين, الذين تأثروا بفجائع الحرب فأصابهم الاضطراب الذي مع تطوره يؤدي إلى الانقسام النفسي. يجلس الرجل على الجدار الفاصل بين المرفأ والطريق, يصل في وقت محدد قبل غروب الشمس, يرتدي ثياباً مقبولة نظيفة, لا يوحي مظهره الخارجي بأي شيء ويمكن اعتباره من المارة الطبيعيين، يحمل فنجاناً كرتونياً من القهوة، يجلس وظهره إلى الطريق, يدخن سيجارة. بداية يتمتم كلمات غير مفهومة لا تسمع إلا في حال الاقتراب منه. وإن حصل فسوف يصمت. لكنه حين يتأكد من عدم وجود أحدهم بقربه يرفع صوته (أنا قلت هادا الشي ما بصير كان لازم يسمع مني. شوف هاي الحالة ما بتناسبني أبداً) يصمت. يشرب قهوة، يشعل سيجارة أخرى. يدير نظره للخلف بشكل خاطف, يعود للتحدث مع الشخص المفترض حسب انقسامه (طيب سمك بالبحر ما في فراريج بالمدجنة ما في. كمان بيض. قلتلك أنو هيك ما بيصير) ينهض متطلعاً إلى السماء رافعاً يديه بشكل موحٍ, وبصوت مرتفع أكثر (طيب السرطعون وين راح وكيف مشي السرطعون) لمدة أسبوع تابعته في نفس المكان, والموعد حديثه لا تبديل فيه. علمت أنه كان قبل الأحداث صاحب مدجنة.
 عمرها المتوقع ثلاثين سنة ترتدي الجينز وقميصاً يكشف أحد طرفي الساعدين طريقها مشروع الزراعة وصولاً إلى المشروع السابع تقف أحياناً مع فتيات يرحبن بها بحرارة ومنهن من يقبلها. تحدث نفسها من دون توقف وبصوت مسموع (ما إجاني نصيب، عم انتظر هالنصيب لشوف شو بدو يصير. والله بس يجي بدي حبو، وغنجو، وما زعلو. ليش ما عم يجي هالنصيب. تصمت متابعة سيرها. تدخل بناية. تمكنت من متابعتها ثلاث مرات. علمت أنها أصيبت بالحالة منذ سنة كانت فتاة طبيعية ومرحة. مسألة النصيب عندها تعني الخطبة والزواج.
حالة لسيدة عجوز تتسول في الشارع الممتد من مديرية ثقافة اللاذقية حتى مبنى المحافظة الجديد, تقترب من المارة بلطافة تامة, تتواجد بحدود الساعة 11 صباحاً وتستمر حتى الثالثة أو الرابعة بعد الظهر. في الفترة الصباحية تطلب برجاء ثمن سندويشة فلافل، وظهراً ثمن شاورما، وبما أنها أصبحت مألوفة فهي تعتذر عن قبول ثمن الشاورما صباحاً لأنها تريد سندويشة فلافل. تقول (لا بدي حق الفلافل هلق، الشاورما بعدين) لا تهتم بالمبلغ المقدم لها, وما تركز عليه هو الغرض من تقديمه، فللفلافل وقتها وللشاورما وقتها. وفي حال خرق قانونها لا تأخذ المبلغ, وتعتذر عن قبوله. محددة نوع السندويشة. حالتها تحتاج للدراسة المختصة. يمكنها أن تجمع النقود وتشتري ما تريد وقت تشاء، لكن نظامها الانقسامي لا يؤهلها لفعل ذلك. كثيراً ما أثارت دهشة المارة خاصة الفتيات اللواتي يقدمن لها وهن يذكرن السندويشة حسب وقتها المعتاد.
•    حالات أخرى:
حدثني الرجل أنه استيقظ في الرابعة صباحاً, وكان التيار الكهربائي مقطوعاً على صوت دقات متتالية بباب شقته بالطابق الثاني في البناء. فهب مذعوراً وإذا به يواجه ابنه على الباب وكان قبل النوم قد تركه في غرفته يبلغ الابن الثلاثين من عمره ويرفض الزواج. أصيب الأب بدهشة كادت تفقده توازنه (المفقود أصلاً) كما قال. وتبين أن الابن خرج أثناء النوم من البيت ومشى إلى الشارع وهو في حالة إغفاء وحين صحا كاد يفقد صوابه. قلت له راقبه جيداً وفي حال تكررت الحالة يجب أن تعرض على المختص. ولابد من ذكر الكوابيس الليلية, والصراخ والكلام أثناء النوم. وجميعها حالات تتزايد. إلى جانب ظاهرة النسيان فقد تكرر موضوع نسيانه لمفاتيح البيت والعربة ورقم الهاتف النقال والأرضي وآخر ما حدثني عنه صديق أن نسي موقع بيته ومدخل البناية, وقد عبر من أمامه مرتين من دون أن ينتبه لوصوله. وحين استفاق من ضياعه صار يضحك على نفسه، سألني ما العمل؟ فأجبته إننا جميعنا متجهون صوب ذلك, وذكرته أن (الزهايمر) يضربنا فما نسمعه ونراه ونعيشه يفوق حتماً احتمال مقدرتنا العقلية. وما جرى أصبح يدعونا لإيجاد مفردة جديدة في اللغة تتناسب مع الدموية التي فاقت كل وصف. وبالمناسبة فإن الفصام لا يدل على انقسام الشخصية أو الانفصال في الهوية. وهي حالة غالباً ما تختلط على معظم الحالات. وقبل تطورها ينبغي إعادة التأهيل الاجتماعي والمهني، ومعالجة المسببات، والاهتمام من الجهات المختصة وما نأمله أن ننتهي من أزمتنا اللعينة ليعود الاتزان النفسي والاجتماعي. وتعود الحياة إلى طبيعتها.