«قرشـك الأبيض ليومك الأسود» .. ويلات الحرب تعزز آراء مكتنزي الـذهب.. رئيس جمعية الصاغة: زنوبيا حمت الليرة السورية

«قرشـك الأبيض ليومك الأسود» .. ويلات الحرب تعزز آراء مكتنزي الـذهب.. رئيس جمعية الصاغة: زنوبيا حمت الليرة السورية

مال واعمال

الثلاثاء، ١١ أبريل ٢٠١٧

يسرى ديب
اكتشفت الكثير من العائلات السورية حسن تصرفها، عندما كانت تسعى لاقتناء الذهب، ربما لم يكن عشاقه يعلمون بما ستؤول إليه أسعاره وأمورهم الحياتية أيضاً، ولكن الرغبة في الاحتفاظ بالذهب عادة متوارثة، تبينت جدواها في هذه الحرب كما أكد الكثيرون: زوج علا لا يحب عادة شراء الذهب، وليس هناك فائض مالي يمكنهم من ذلك، لكن زوجته على عكسه، فكانت تقتطع مبلغاً من هنا وليرات من هناك من دون علمه كي تتمكن من توفير سعر قطعة تدخرها لأيام الحاجة، وفعلاً جاءت تلك الحاجة خلال هذه الحرب.
هناك الكثير من الأسر التي مكنها بيع ما ادخرته من مصاغ من تأمين مصاريف وحاجات، كانوا بأمس الحاجة إليها، كحال أسرة أم عبدو المهجرة، حيث كان زوجها يبيع قطعاً صغيرة من إسوارتيها تحسباً للارتفاع الدائم في سعر الذهب، وخشية صرف المبلغ كله في حال تم بيعهما دفعة واحدة.
آلاف القصص يتناقلها السوريون عما حققه لهم اكتنازهم الذهب، وكيف كان ادخاره تجسيداً لمقولة «قرشك الأبيض ليومك الأسود».
هنا نحاول أن نبحث في دور معدن الذهب في هذه الأزمة، وكيف غيرت الحرب من عادات شرائه؟

عادوا للمصاغ
يقول رئيس جمعية الصاغة في دمشق غسان جزماتي إنه في بداية الأزمة كان الإقبال شبه معدوم على شراء الذهب، الأمر الذي تسبب بهجرة أكثر من 80 ورشة تصنيع ذهب من أصل ما يفوق 100 ورشة، وإن الطلب بدأ يتحسن على الذهب بقصد الادخار مع بداية تصنيع الليرة السورية الذهبية و«الأونصة» التي تحمل صورة الملكة زنوبيا، ويرى أن تصنيع هذين النوعين من المصاغ ساهم في حماية الليرة بشكل غير مباشر من خلال الإقبال على شراء الذهب عوضاً عن الدولار كوسيلة للادخار، لأن خسائر الليرة والأونصة قليلة، مقابل انتشار الدولارات المزورة من جهة، وتذبذب أسعار الدولار بشكل دائم من جهة ثانية.
كل هذا زاد من الطلب على تلك القطعتين، الأمر الذي انعكس على زيادة الإنتاج فقد تم تصنيع أكثر من 5 آلاف قطعة بأقل من ثلاثة أشهر في تلك الفترة كما يؤكد جزماتي.
ويحدد رئيس جمعية الصاغة عام 2015 كبداية لعودة الناس إلى شراء الذهب كمصاغ وليس للادخار، ويرى أن هذا كان بمنزلة المؤشر على بدء عودة الحياة إلى طبيعتها، خاصة بعد تراجع ظواهر الخطف، وتمكن الكثير من السيدات من التزين بمصاغهن من دون خوف.
وأن النسبة الآن انعكست بحيث أصبح الإقبال على الادخار لا يتجاوز نسبة 15%، بينما النسبة الباقية الأكبر 85% للحلي.
الحركة محدودة في سوق الذهب بالحريقة، وأصحاب المحلات سئموا انتظار «زبون» دسم. صاحب محل فرح للمجوهرات يشكو انخفاض نسبة مبيعاته لأكثر من 50%، ولاسيما بعدما خسر السوق زبائنه من السياح العرب والأجانب، وأصبح البيع يكاد يقتصر على أهل البلد الذين التهم التضخم كل مدخراتهم. أضاف الرجل أن ارتفاع الأسعار يجعل أغلبية الأسر تقتصر في شراء الذهب على قطع صغيرة، إذ إن سعر الخاتم حالياً يفوق سعر إسوارة في السابق.
ألف بالمئة
السبب الأساس في ارتفاع سعر الذهب كما يقول صاحب ورشة تصنيع ذهب – لم يرغب ذكر اسمه- أن أسعار المادة الأولية ارتفعت إلى أكثر من 1000%، إذ إن «بيدون» ماء الفضة الذي يشكل مادة أساسية في تصنيع الذهب ارتفع سعره من 800 ليرة إلى أكثر من 160 ألف ليرة، ويفوق سعره 250 ألف ليرة إذا كان مستورداً، وكذلك الحال مع مادة الأسيد. إضافة لارتفاع أسعار وتكاليف توليد الطاقة، وقيمة الضرائب التي تفرضها الدولة على القطع المصنعة من الذهب، الأمر الذي يجعل ربح «المالية» في كل قطعة يفوق ربح المصنع ذاته، كما يقول صاحب الورشة. وفي المحصلة كل هذه التكاليف تحّمل للزبون، الذي تمنعه الأسعار المرتفعة من الشراء.
ويضيف صاحب الورشة أن كل هذا بالتزامن مع النقص الكبير في عدد الشباب الحرفيين الذين كان يتم الاعتماد عليهم في العمل، ولكن بسبب الحرب خسرت الحرف الكثير من أبنائها، إما بسبب الهجرة، أو لأسباب أخرى.
ربما لكل هذه الأسباب وغيرها، انخفضت كمية المبيعات اليومية من الذهب في دمشق من 5 كغ قبل الحرب إلى نحو 2 كغ، كما يؤكد جزماتي مضيفاً أن منطقة مخيم اليرموك كانت تحوي أكثر من 50% من ذهب دمشق، لكنها تحولت إلى منطقة غير آمنة، كذلك الحال في برزة.
لكل أسواقه
لكل منطقة عاداتها في التسوق، فمحلات حلب قبل هذه الحرب كانت تعتمد على فترات جني المواسم والمحاصيل الاستراتيجية كالقمح والقطن، الآن لم يبق في حلب أكثر من 200 حرفي كما يقدرهم جزماتي، أما في دمشق فيختص سوق الصاغة القديم بزبائن ريف دمشق، الذين اعتادوا على زيارته عقب كل عملية بيع لأي نوع من محاصيلهم، وكي يحافظوا على قيمة أموالهم يعمدون إلى شراء الذهب، بغية ادخاره أو الاحتفاظ به لتزويج أبنائهم، كما قالت إحدى قاصدات السوق، لكن حتى هذه العادات تراجعت كثيراً، ولاسيما أن المناطق الرئيسة التي كان يتم الاعتماد على زبائنها هي «عربين ودوما»، وهذا لا يعني أنها لم تعد موجودة لكن أعداد طالبي الذهب أقل، والكميات التي يتم شراؤها أقل بكثير أيضاً.
وكما تراجع الإقبال على الذهب في مواسم جني المحاصيل، كذلك تراجعت نسبة المبيعات كثيراً في المناسبات، فقد أكد جزماتي أنه كان تمر في العام ثلاث مناسبات يعادل عملها كل مبيعات العام وهي (عيد الأم، وعيد الأضحى، والفطر) وأن محلات الصاغة -كما أضاف الصائغ أبو الياس- كانت تتجهز لبيع ثلاث هدايا لكل ميسور أو متوسط حال في تلك الأيام، فأغلب الزبائن يطلبون الهدية الأغلى للزوجة، ثم للأم، وأم الزوجة، لكن الآن الطبقة الغنية هاجرت، ومن بقي في البلد استهلك أغلبية رصيده ومدخراته، وأصبح يعجز أحياناً عن تأمين الحاجات الضرورية من الطعام.
قد يكون تحصيل حاصل الحديثُ عن تراجع حالات الزواج التي كانت تساهم أيضاً في تحريك السوق، لأن تجهيز أغلب حالات الزواج التي تتم اختلف كثيراً أيضاً، فمن كان يجهز لعرسه مبلغ ثلاثة ملايين ليرة لشراء أكثر من قطعة أصبح يكتفي الآن بأقل من هذا المبلغ ويكتفي بقطعة واحدة، لكل هذا يؤكد جزماتي أن نسبة المبيع للمحلات انخفضت بنحو 60%، ولاسيما مع ارتفاع الأسعار بنسبة وصلت إلى أكثر من 18 ضعفاً.
تسهيلات.. وإجراءات
خلال هذه الحرب قدمت الدولة تسهيلات نوعية كما يؤكد جزماتي، واستجابت لطلبات كانت تتكرر دائماً من دون جدوى، فقد تم السماح لأي مواطن بإدخال الذهب الخام مقابل مبلغ 100 دولار تدفع للجمارك على الحدود، وأن هناك نحو 2-3 كيلو غرامات ذهب خام تدخل يومياً من بيروت.
كما سمحت الحكومة للحرفيين بإحضار ذهب خام من القامشلي ومن ثم إعادته إليها بعد تصنيعه عن طريق المطار لضمان سلامة الطريق، أما الإجراء الأفضل -كما يضيف جزماتي- فهو منع دخول الليرة التركية «الرشادي» لأنه كما يقول: ما مسوغ السماح بدخول منتج تركي ننتج أفضل منه أولاً ولدولة أبدت الكثير من العداء تجاه سورية؟
تحت السيطرة
هل تعرض الذهب للغش كحال الكثير من المنتجات في زمن الحرب؟
كان رئيس جمعية الصاغة، يضع المجهر جانباً عندما وصلت الجمعية، ويؤكد أن القطعة التي يفحصها لا تحمل ختم أو دمغة الجمعية، أي إنها مغشوشة في معايير التسويق، يضيف جزماتي إنه في بداية الأزمة حصلت حالات غش، ووجدت ليرات ذهبية وأونصات مغشوشة في السوق ومع المواطنين الذين اشتروها، لكنه يؤكد أنه تم السيطرة على الموضوع، رغم أنه مازال يراجعهم أشخاص يحملون قطعاً مزورة، ويرى أن علاج هذا الأمر يكون بطلب الفاتورة من البائع قبل الشراء ومغادرة المحل، لأن الفاتورة تحمي الزبون، وترغم الصائغ على الاعتراف بأن هذه القطعة من عنده، في حال تبين أن هناك لبثاً في الأمر، أما من دون الفاتورة، فلا شيء يثبت صحة ما يقال.
وأكد جزماتي أيضاً أنه كل 15- 20 يوماً تنظم دورية بالتنسيق مع وزارة التجارة الداخلية ويقومون بجولة على الأسواق، وأن أحدث عملية تزوير تم كشفها كانت في شارع العابد ونوع المخالفة كان تهرباً ضريبياً، فكانت مخالفته الفصل من الجمعية والتغريم بمبلغ مليون ليرة.
ويرى جزماتي أن تخفيف قيمة الضريبة عن الذهب سيحل مشكلة التهرب، لأن مبلغ 300 ألف ليرة على كيلو الذهب يجده البعض رقماً كبيراً يستحق المغامرة والتهرب منه، بينما مبلغ 50 ألفاً مثلاً لن يجهد الصائغ نفسه للتهرب منه وتحمل مخاطر هذا التصرف.
يحدده السوق العالمي
للخبيرة الاقتصادية ووزيرة الاقتصاد السابقة د. لمياء عاصي رأي مختلف في قضية دور الذهب في هذه الحرب، وتؤكد أنه نتيجة تدني القيمة الشرائية للعملة الوطنية في سورية، أصبح الكثير من الناس يفضلون الاحتفاظ بقيمة مدخراتهم وثرواتهم بالذهب أو بالعملات الأجنبية مثل الدولار واليورو.
وتصف د. عاصي أن فكرة تشجيع الناس على شراء الذهب كي يخفّ الضغط على طلب الدولار وتالياً السيطرة على سعره بصورة أفضل بالمقولة غير الصحيحة، لأن العلاقة بين سعر الذهب وسعر الدولار يحددها السوق العالمي في بورصات عالمية وليس السوق المحلي.
بمعنى آخر، إن قلة الطلب على الدولار لن تتسبب بانخفاض سعره إلا بالنسبة لعمليات المضاربة المحلية، وبقيت آليات العرض والطلب ضعيفة التأثير في الذهب والعملات الصعبة في السوق المحلي في سورية وعموماً انخفضت تجارة الذهب بعد الأزمة لمستويات كبيرة.
أما تأثير الذهب في سعر العملة المحلية فسيكون ملحوظاً في حال ملكية الدولة لكميات كبيرة من الذهب تستخدمها كاحتياطي لضمان التزاماتها بما فيها الدين العام الداخلي والخارجي وجاهزيتها لتسييل بعض ممتلكاتها عند الحاجة، هذا سيؤثر إيجاباً في سعر العملة المحلية ويجعلها مقاومة لأي احتمال لانخفاض أسعارها، أما أن يكون الذهب ممتلكاً من قبل تجار الذهب بشكل خاص فهو لن يمكن الدولة من استخدام هذا المخزون لأنه ببساطة ليس ملكاً لها.

الأكثر تميزاً

لا يحب زبائن سوق الصاغة ولا أصحاب المحلات أيضاً التحدث إلى وسائل الإعلام، فمن جاء يشتري الذهب ليس كمن يتسوق الخضر والفواكه، وكذلك من يبيعها.
لا ازدحام في المحلات، ولا متحدثون أيضاً، إيقاع متشابه لأيام أصحاب محلات الصاغة، كما أغلبية السلع التي لا ترتبط بالطعام والشراب.
ينتظرون مناسبات ثم تذهب، من دون أن تعود بكل ما كان متوقعاً، ليست هناك خيارات كبيرة أمام حرفيي الذهب، فأكثرهم جرب العمل خارج سورية، واكتشفوا أن تكاليف العيش خارج بلدهم تستنزف كل ما يجنونه، كما قال بعضهم، ومن غامر بالسفر في بداية الأحداث لن يعيدها ثانية بعدما اكتشف أن ما يمكن تحقيقه في سورية رغم كل ظروف العيش فيها لا يمكن الحصول عليه في البلدان الأخرى.
في دمشق 1600 حرفي، منهم 250 حرفياً يسددون اشتراكاتهم لجمعية الصاغة، وهذا العدد لم يكن في السنوات الأولى للأزمة، لكن كما يقول رئيس جمعية الصاغة: إن تفعيل دور الجمعية وتحقيق شروط أفضل في العمل، بالتزامن مع ارتفاع سعر الدولار، وزيادة الإقبال على ادخار الذهب، شجع أكثر من 90% ممن سافروا خارج سورية للعودة، وتصنيع الذهب السوري الذي يمتاز بأن أكثر من 90% منه يصنع يدوياً، وأن هناك أنواعاً لا يمكن تقليدها (كوردون) الأمر الذي يجعله المنتج الأكثر تميزاً خاصة لدول الخليج.
تشرين